بقلم خلود وتار قاسم
حين نقول “عالمنا العربي” فنحن لا نقصد مجرد خريطة مرسومة على ورق، بل نعني فضاءً واسعًا من القيم والتاريخ واللغة المشتركة التي جمعت شعوبًا مختلفة تحت سقف واحد: اللغة العربية. هذه اللغة التي لم تكن مجرّد وسيلة تواصل، بل كانت لقرون مصدرًا للفكر والعلم والحضارة.
لفتني اليوم تصريحٌ لافت لوزيرة فرنسية من أصل مغربي، اقترحت خلاله إدراج اللغة العربية كلغة أجنبية أساسية تُدرّس في المدارس الفرنسية! ويا للمفارقة! ففي حين يبدأ الغرب بالاعتراف بقيمة لغتنا، نحن – أبناءها – نفرّ منها وكأنها عبء ثقيل على أكتافنا، لا هويةَ تُبنى بها، ولا مستقبلَ يُصاغ من خلالها.
أعترف، وبدون مواربة، أنني كنت يومًا من أولئك الذين قصّروا بحق لغتهم. في بداية تربيتي لأطفالي، اخترت الإنجليزية كلغة منزلية لتسهيل اندماجهم في نظامهم التعليمي. ولكن الصدمة كانت حين حاولوا الحديث بالعربية مع أصدقائهم، فكان لسانهم مدعاةً للسخرية والاستهزاء! عندها أدركت حجم الكارثة، وقررت أن تكون العربية لغة البيت الوحيدة. حتى العاملة الأجنبية في منزلنا تعلّمت العربية، لأنها ببساطة لغة الحياة في بيتنا، ولغة هويتنا.
وعلى المستوى الأكاديمي، رغم أنني كنت خريجة الجامعة الأميركية في بيروت بشهادة علم الاجتماع، عدت عام 2010 إلى الجامعة اللبنانية لنيل شهادة الماجستير في علم الاجتماع السياسي. لم يكن الأمر سهلًا، فقد واجهت صعوبة حقيقية في الدراسة بالعربية. لكنني ثابرت، واليوم أكتب بلغتي الأم بكل فخر واعتزاز. اللغة العربية ليست فقط حروفًا… إنها كيان.
إذا أردنا استعادة عالمنا العربي، فلنبدأ بلغتنا. لماذا نُسمّى “عربًا” إذا كانت العربية تُقصى من مدارسنا ومنازلنا ومؤسساتنا؟ من بين أولادنا من يقرأ العربية بطلاقة؟ من يفكر بها؟ من يعشقها؟ كم من شاب وشابة يتحدثون اليوم فيما بينهم بالإنجليزية أو الفرنسية، وكأن العربية عارٌ أو وصمة تُشير إلى التخلف؟!
هل هذا هو التطور؟ هل يُقاس الرقيّ بمدى التنكّر لجذورنا؟
اللغة الأجنبية نافذة ثقافية مهمة، نعم، ولكن لا يجب أن تكون بابًا يقتلعنا من أساسنا. فحين تتغلّب لغة الآخر على لغتنا، لا نخسر وسيلة التعبير فقط، بل نخسر التاريخ، والهوية، والانتماء، والتواصل العميق مع ذاتنا ومع أهلنا في وطننا وفي منطقة فلا نعود نفهم بعضنا ولا نقوى على التعاطف مع بعضنا.
ما نشهده اليوم هو أزمة كبرى، تتجاوز قضية لغوية بسيطة. إنها أزمة وعي، أزمة انتماء، أزمة وجود. اللغة ليست مجرد أداة، بل حصنٌ منيع يحمي المجتمع من الذوبان في ثقافة الآخر بلا وعي ولا توازن.
نحن اليوم أمام لحظة مفصلية في تاريخ منطقتنا. حربٌ ناعمة تُشنّ على مجتمعاتنا، لا بالدبابات ولا بالصواريخ، بل بمحو الذاكرة، وبطمس الهوية، وبإقصاء اللغة. وهذه المعركة أخطر من الحروب التقليدية، لأنها تنخر المجتمع من الداخل.
كلنا مسؤول.
كل أمّ تنطق مع طفلها بلغةٍ لا تمتُّ لروحه بصلة… مسؤولة.
كل أبٍ يفتخر بطفله الذي لا يتقن العربية… مسؤول.
كل مدرسة تُقصي العربية من برامجها بحجّة الحداثة… مسؤولة.
نحن جميعًا في مواجهة مفتوحة مع النسيان… فإما أن ننتصر، أو نُمحى.
فلنحمِ لغتنا قبل أن نصحو يومًا على صمتٍ لا يُشبهنا.