الانتقام الروسي : روسيا تفشل استخباراتياً وتنتقم من المدنيين بصواريخها

بقلم محمد البابا

في الأيام الماضية، استيقظت المدن الأوكرانية على أصوات الانفجارات المتلاحقة في واحدة من أعنف موجات التصعيد الروسي منذ شهور.

ففي السادس والسابع من حزيران، شنّت روسيا سلسلة هجمات جوية مكثفة استُخدمت فيها أكثر من 400 طائرة مسيّرة هجومية وعشرات الصواريخ الباليستية والموجهة، مستهدفة بشكل مباشر العاصمة كييف وخاركيف وسومي ومدناً أخرى، في ما يبدو أنه رد انتقامي واضح على عملية عسكرية نوعية نفذتها أوكرانيا داخل العمق الروسي، عُرفت باسم “عملية بيت العنكبوت”.

إلا أن ما يلفت الانتباه، أن هذه الضربات الروسية، رغم كثافتها ووحشيتها، لم تُحدث أي اختراق استراتيجي في مجرى الحرب، بل جاءت لتكشف مجدداً عجز موسكو عن تحقيق أي أهداف عسكرية حاسمة، ما دفعها للانتقام من المدنيين عبر استهداف البنية التحتية السكنية والنقل والمرافق الحيوية.

الهجوم على كييف يوم الجمعة، أسفر عن مقتل أربعة مدنيين وتدمير خطوط المترو، في مشهد أعاد العاصمة إلى أجواء القصف الأولى للحرب.

أما في خاركيف، فقد تعرّضت المدينة لأقسى غارة منذ بداية الغزو، حيث استخدمت روسيا 48 مسيّرة إيرانية من طراز “شاهد”، إلى جانب قنابل موجهة وصواريخ، مما أدى إلى مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة العشرات، إضافة إلى تدمير عشرات المباني السكنية.

هذا التصعيد جاء بعد أيام فقط من تنفيذ أوكرانيا لعملية معقدة حملت اسم “بيت العنكبوت”، تم فيها استهداف قواعد ومطارات عسكرية داخل الأراضي الروسية، بواسطة طائرات مسيرة طويلة المدى.

العملية أصابت أهدافاً دقيقة في مطارات تستخدمها روسيا لإقلاع قاذفاتها الاستراتيجية، بما في ذلك تلك التي تُطلق صواريخ كروز على المدن الأوكرانية. وقد وُصفت هذه الضربات بأنها تحوّل نوعي في قواعد الاشتباك، إذ أنها كسرت “حصانة العمق الروسي” ووجهت ضربة موجعة لهيبة الجيش الروسي داخل أراضيه.

الرسالة التي حملتها “بيت العنكبوت” كانت واضحة: لم تعد أوكرانيا تكتفي بالدفاع عن أراضيها، بل باتت قادرة على خنق شبكات الإمداد والهجوم الروسية من مصدرها. وهذا ما أثار انفعالات حادة في موسكو، ظهرت بوضوح في شكل قصف غير مبرر على المناطق المدنية.

عوضاً عن الرد العسكري المنظّم، اختارت روسيا استخدام ما تبقى لها من أدوات الترهيب، عبر ضرب منازل، ومستشفيات، ومحطات مترو، في تكرار لنهج اعتمدته كلما تعرّضت لهزيمة أو صفعة داخلية.

في تطوّر لافت، علّق الرئيس الأميركي دونالد ترامب على “عملية بيت العنكبوت”، معتبراً أن أوكرانيا “أثبتت قدرة مذهلة على ضرب العمق الروسي بأسلوب منظم”، مؤكداً أن “روسيا لم تعد تخيف أحداً كما في السابق”. تصريح ترامب فُهم على نطاق واسع باعتباره تحوّلاً صريحاً في لهجته تجاه موسكو، لا سيما بعد سنوات من التردد أو التبرير لمواقفها، وهو ما يعكس أيضًا تغيّر المزاج السياسي في واشنطن، حتى في أوساط الجمهوريين.

هذا التغيير في الخطاب يتقاطع مع موجة تشريعية جديدة في الكونغرس الأميركي، حيث يتهيأ أعضاء من الحزبين الجمهوري والديمقراطي لدفع حزمة عقوبات إضافية ضد روسيا، تستهدف مصارف وشركات طاقة ومسؤولين عن الصناعات الجوية والدفاعية، كرد على التصعيد الأخير واستهداف المدنيين الأوكرانيين عمدًا.

وفي سياق متصل، أعلن جهاز الأمن الأوكراني عن اعتقال عميلين روسيين كانا يخططان لتنفيذ سلسلة من التفجيرات في مراكز تجارية داخل البلاد.

وقد كشفت التحقيقات أن المتهمَين كانا على اتصال مباشر مع عناصر من الاستخبارات العسكرية الروسية، وكان الهدف من العملية إثارة الذعر والضغط على الجبهة الداخلية الأوكرانية في توقيت يتزامن مع الهجمات الجوية. هذا التطور يعزز من القناعة بأن موسكو تلجأ حالياً إلى استراتيجية “الحرب النفسية” بعد فشلها في فرض معادلات جديدة على الأرض.

الدول الغربية سارعت إلى إدانة هذا التصعيد الروسي. واشنطن أعربت عن “قلقها الشديد” إزاء استهداف المدنيين، فيما وصفت الخارجية البريطانية الهجمات بأنها “عمل همجي يفضح فشل روسيا العسكري”.

أما برلين، فقد دعت إلى تسريع تسليم أوكرانيا منظومات دفاع جوي متطورة، معتبرة أن الهجوم على خاركيف يسلّط الضوء على الحاجة الملحّة لحماية المدن الأوكرانية من الاستهداف الجوي. في المقابل، لوحظ صمت صيني نسبي، واكتفت بكين بالدعوة إلى “ضبط النفس من الطرفين”، مما يعكس استمرار النهج الرمادي في مواقفها الدولية.

لا شيء في هذا التصعيد يشي بأن روسيا بصدد استعادة زمام المبادرة. بل إن تكرار مثل هذه الهجمات يسلّط الضوء أكثر على مأزق استراتيجي واضح: موسكو عاجزة عن كسب الأرض، فتقصف المدنيين للضغط السياسي، فيما أوكرانيا تثبت أنها قادرة على نقل المعركة إلى العمق الروسي أو شبهه، بضربات مدروسة تحمل رسائل سيادية واضحة. وفي هذا السياق، تبدو كل قنبلة روسية على خاركيف أو كييف، شهادة جديدة على تعثّر المشروع العسكري الروسي، أكثر من كونها إعلاناً عن تفوقه.

اخترنا لك