عاد لبنان إلى دائرة القلق

بقلم أحمد عياش

أدت الغارات الإسرائيلية الأخيرة على الضاحية الجنوبية لبيروت إلى قلب النّظرة إلى مسار الأمور في لبنان. وتجلّى التغيير في هذا المسار في الأضرار التي لحقت مباشرةً بآلية العمل لتطبيق اتفاق وقف النار الذي أنهى الحرب الأخيرة في 27 تشرين الثاني الماضي. وظهر الانقسام جليًا على مستوى أطراف اللجنة الخماسية التي تُشرف على تطبيق الاتفاق، فوقف لبنان وفرنسا في جانبٍ فيما وقفت الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل في جانبٍ آخر. أمّا العضو الخامس في اللجنة، أي الأمم المتحدة، فبدت عاجزةً عن تحديد موقفها من هذه الغارات.

وتوالت الإشارات المُعلنة والمُضمرة بعد غارات الخميس التي تُعرب عن الخشية من انهيارٍ وشيكٍ في الـ”ستاتيكو” الذي حكم الأوضاع اللبنانية منذ بدء سريان تطبيق اتفاق النار. وعلى الرَّغم من أنَّ المرحلة التي سبقت الغارات لم تكن خاليةً من العنف، لكنّ مستوى العنف الذي بلغته الضربات الإسرائيلية الأخيرة دلَّ على أنَّ مرحلةً جديدةً قد بدأت وتتميّز بنقل المواجهات بين إسرائيل و”حزب الله” إلى مستوًى يقارب الحرب التي شنّتها إسرائيل الصيف الماضي وبلغت ذروتها باغتيال الأمين العام لـ”الحزب” السيد حسن نصر الله.

أزالت نتائج الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي للبنان بعض الغموض في التطوّرات الجارية. فقد تسرَّب من المحادثات التي أجراها عراقجي مع رئيس مجلس النواب نبيه بري وقيادات “حزب الله” أنَّ طهران تتوقّع عملًا عسكريًا تردّ إسرائيل من خلاله على تطوّر المفاوضات النووية الجارية بين الولايات المتحدة وإيران. ولم يتأخّر الوقت حتى بادر رئيس الجمهورية جوزاف عون إلى توصيف أبعاد الغارات الإسرائيلية الأخيرة على الضاحية بما يقترب من توقّعات وزير الخارجية الإيراني. فقد اعتبر الرئيس عون هذه الغارات بأنّها “رسالة يوجّهها مرتكب هذه الفظاعات، إلى الولايات المتحدة الأميركية وسياساتها ومبادراتها أوّلًا، عبر صندوق بريد بيروت ودماء أبريائها ومدنييها”.

وأكثر ما يُثير القلق حاليًا، هو أنَّ الموقف الأميركي تماهَى في الغارات الإسرائيلية الأخيرة مع الدولة العبرية. وأقام هذا التماهي حاجزًا أمام الجهود التي يمكن بذلها كي يتمّ احتواء تداعيات هذا التدهور الأمني الكبير. علمًا أنَّ عودة اللجنة الخماسية المُكلّفة الإشراف على تطبيق اتفاق وقف النار إلى العمل، ترتبط بموافقة واشنطن التي تتولّى رئاسة اللجنة. لكنّ التصريح الأخير باسم متحدث باسم الخارجية الأميركية تعليقًا على الغارات التي قامت بها إسرائيل ليل الخميس على مواقع لـ”حزب الله” علَّق حاليًا عمل اللجنة الخماسية، وبخاصةٍ أنَّ المتحدث قال بصريح العبارة أنَّ “الولايات المتحدة تدعمُ حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها وحماية مجتمعاتها في الشمال من “حزب الله” والمنظّمات الإرهابية الأخرى التي تروّج للعنف وتعارض السلام”.

تصاعدت علامات الاستفهام السبت الماضي بعد مواصلة “حزب الله” عمليات عرقلة تحرّكات قوات “اليونيفيل” في الجنوب. فقد اعترض عناصر “الحزب” على الطريق العام في بلدة صريفا، دوريةً لليونيفيل كانت في طريقها إلى منطقة وادي السلوقي. وتذرّع “الحزب” مجدّدًا بعرقلة دورية الأمم المتحدة بأنّها كانت “احتجاجًا على عدم وجود الجيش اللبناني مع الدورية”.

وفي المقابل، ألقى النّاطق الرسمي باسم اليونيفيل أندريا تيننتي الشبهة على تورّط “الحزب” بتصريحٍ جاء فيه أنَّ “مجموعةً من الرجال في ملابس مدنية” هي التي أوقفت قوات حفظ السلام التابعة لليونيفيل في بلدة صريفا. وأسقط تيننتي ذريعة عناصر “الحزب” في صريفا فقال إنَّ الدورية التي تمّ اعتراضها “مخطط لها بالتنسيق مع القوات المسلحة اللبنانية”. وشدّد على أنَّ “القرار 1701 يمنح قوة الأمم المتحدة الموقتة في لبنان اليونيفيل سلطة التنقل بحرية وإجراء الدوريات – بوجود الجيش أو بدونه. هذا جزء من ولايتنا. بينما ننسّق بشكلٍ وثيقٍ مع الجيش اللبناني، فإنَّ حرية حركة حفظة السلام لدينا هي المفتاح لتنفيذ المهام الموكلة إلينا”.

يُستفاد من معطيات حادثة اليونيفيل الأخيرة، ولو كانت هناك إطالةً في عرضها، أنَّ لبنان أمام خطر فقدان درع حماية دولي في مرحلة معقّدة تضع احتمال بقاء قوات الأمم المتحدة في لبنان في دائرة الشكّ. وتتوالى المعلومات التي تُفيد بأنَّ التمديد المُنتظر لعمل هذه القوات بدءًا من شهر آب المقبل بناءً على تفويضٍ جديدٍ من مجلس الأمن قد لا يكون روتينيًا، وبخاصةٍ مع دعوة إسرائيل وبتأييدٍ أميركي إلى تعديل عمل اليونيفيل بحيث تصبح “قوة تدخلٍ” بما يحاكي موجبات الفصل السابع الذي ينقلها من مستوى قوة سلام إلى مستوى قوة عسكرية تنفّذ القرار 1701 بالقوّة، أي القرار الذي أنشئت بموجبه اليونيفيل عام 2006 بعد حرب تموز في ذلك العام.

لا جدال في أنَّ كفة ميزان التوقّعات في المرحلة الراهنة تميل لترجيح القلق على الاطمئنان. ويستطيع المرء النّظر في ما ينشره إعلام “حزب الله” ليوافق على واقع ميزان التوقّعات هذه. ونقرأ في مقالٍ أورده، أمس، موقع “العهد” الإخباري التابع لـ”الحزب” ما يؤكّد رجحان كفة القلق على الاطمئنان. فقد جاء حرفيًا في المقال: “الدور السعودي المُعادي للمقاومة في لبنان غني عن البيان، ولكنّه تنامى بشكل أكثر جرأة في المرحلة الأخيرة، في سياق القراءة المتسرّعة والواهمة نفسِها بضعف المقاومة وانزوائها. ومؤخّرًا، أعربت السعودية عن دعمها الكامل للإجراءات التي اتخذها لبنان لمواجهة “محاولات العبث بأمن المواطنين اللبنانيين” والتعامل بحزمٍ مع الاعتداء على قوة الأمم المتحدة (اليونيفيل). هذه السياسة غير المسؤولة، والتي تحاول “الوقيعة” بين المقاومة والدولة، هي استمرار لرعاية خصوم المقاومة وإشعال الفتنة، وهي تنفيذ لإملاءات السياسة الأميركية الصهيونية التي لا تملّ من محاولات إشعال الفتن لنزع سلاح المقاومة”.

هل لا يزال هناك شكّ في أنَّ “الحزب”، ومن ورائِه إيران، لديه دور نشط في توتير الأوضاع بالتوازي مع دورٍ إسرائيلي لا تُخفيه تل أبيب من أجل إبقاء جذوة الاضطراب متقدةً في لبنان توصُّلًا إلى إنهاء المشروع المسلح لـ”الحزب” في لبنان؟.

اخترنا لك