لبننة “حزب الله” التي لا بدّ منها

بقلم ماهر أبو شقرا

يوماً بعد يوم ينكشف عملاء لإسرائيل من داخل بيئة حزب الله ودوائره القريبة والبعيدة. وإنّ الضربات الهائلة التي تلقّاها الحزب في الحرب الأخيرة مع إسرائيل تؤكّد أنّ الخروقات الأمنية في جسمه لا تقتصر على الوشاة الصغّار، إنّما هي لا بدّ تشمل عناصر برتب عالية. عناصر لديهم وصول لمعلومات حساسة، هذا فضلاً عن أشخاص من الذين لديهم تأثير في جمهور حزب الله. بعد التحرير في العام 2000، قام حزب الله بدمج العديد من المتعاملين مع إسرائيل ضمن منظومته الشعبية الحاضنة، وذلك لأن أولويته الأساسية كانت، ولم تزل، إحكام السيطرة على شيعة لبنان. ليس إذاً مستغرباً أن نرى اليوم عملاء في بيئة الحزب، فتلك هي إحدى نتائج إساءة ترتيب الأولويات.

لطالما أسمَعَنا المدافعون عن حزب الله ومقاومته أنّ الانتماء العقائدي لدى عناصر حزب الله، وإمساك رجال الدين بقياداته السياسية والأمنية، والإلتزام الديني في بيئته، هي عوامل أساسية تحمي الحزب وتحصّنه أمنياً وتحميه من الخروقات. كم كانوا مخطئين! إنّ العقيدة الدينيّة الجهاديّة تقوم على مبدأ التضحية بالحاضر في سبيل الآخرة. أمّا وقد توغّلنا حتى ربع القرن 21، فإنّ الملتزمين بهذا الدرب حتى النهاية هم قلّة. وإذا أظهر كثيرون ذاك الإلتزام، فحتماً انطلاقاً من مبدأ التقيّة بينما هم يضمرون عكس ذلك.

إنّ الذي يحمي فعلاً من الاختراقات هو المؤسسات الأمنيّة شديدة التنظيم، الخاضعة لآليات محاسبة واضحة، والقيادة السياسية الواقعيّة والحاسمة التي لا تخلط بين الحقيقة وأحلام اليقظة. والذي يحمي من الاختراقات الأمنيّة هو تعزيز المشاعر الوطنيّة، وجعل الانتماء للأرض اللبنانية والمجتمع اللبناني أقوى من أي انتماء آخر. وأنا أجزم أنّ ذلك الانتماء هو الذي كان يحفّز المقاتلين الأبطال، الذين خاضوا قتالاً بطولياً وملحمياً في جبل عامل دفاعاً عن أرضهم وقراهم في المعارك البرّية ضدّ إسرائيل خلال الحرب الأخيرة، وليس أي انتماء آخر. فالانتماء لمشروع خارجي حُكماً يُضعف المشاعر الوطنيّة، ويضع الانتماء الوطنيّ في مرتبة ثانويّة.

وحين يضعف المشروع الخارجي وينهار، فإنّ الانتقال إلى مشروع آخر لن يكون صعباً، طالما الأولويّة لم تكن لأرض لبنان ومجتمعه ودولته. فإذا كان الانتماء لمشروع خارجي هو أمر مباح، تصبح العمالة وجهة نظر حول تحديد الجهة التي سيعمل لها العميل. والذي يرى أرض لبنان ساحة من ساحات مشروع خارجي ليس كمن يرى أرض لبنان وطنه، ومجتمع لبنان مجتمعه وأهله. والذي يحمي فعلاً من الاختراقات، أوّلاً وأخيراً، هو تحصين المجتمع اقتصادياً ومالياً واجتماعياً، وأن تؤمّن الدولة جميع مستلزمات الحياة الكريمة، فلا يسقط أحد في فخّ الإغراءات. وينبغي أن يكون لكلّ إنسان في مجتمعنا شيء ما كبير يخسره إذا هو ارتكب فعل العمالة.

أخيراً، لا بدّ من لبننة حزب الله، ولا بدّ من أن يعيد الحزب ترتيب أولوياته. وهذا الأمر لن يتمّ إلا بفك ارتباطه بإيران ونظامها ومشروعها التوسّعي. هذه خطوة أساسية في مسار الانتقال من لبنان الكيانات الطائفية إلى لبنان الجمهورية الفعليّة: جمهوريّة لامركزيّة إجتماعيّة، ودولة قادرة وعادلة ومحايدة مع جميع الطوائف والديانات.

اخترنا لك