بقلم نجم الهاشم
لا يعمل الجيش اللبناني عند إسرائيل. وبطبيعة الحال ليس موظّفاً عند “حزب الله”. المفروض أنه سيّد قراره. في قواعد اللعبة الجديدة بعد حرب تموز 2006، ثم بعد حرب الإسناد واتفاق وقف النار في 27 تشرين الثاني 2024، هو ضامن الأمن على مساحة لبنان ومنفذ قرار حصرية السلاح بيد السلطة الشرعية ونزع سلاح “الحزب” والتنظيمات الفلسطينية. المسألة مسألة تنفيذ القرار لا مناقشته ولا البحث فيه. الهدف أن يمسك باللعبة ويديرها تحت سقف القرار السياسي للحكم والحكومة والعهد الجديد، لا أن تديره.
تحوّلت مسألة دخول الجيش إلى الضاحية الجنوبية للتأكد من وجود مخازن أسلحة تابعة لـ “حزب الله” إلى ما يشبه لعبة “البوليس والحرامية” بين “الحزب” من جهة، وبين إسرائيل من جهة ثانية، وبين اللجنة الخماسية المفترض أنها ستراقب اتفاق وقف النار. هذا القرار يعطي إسرائيل حق التدخل داخل لبنان إذا وجدت أي خرق له أو إذا لم يلتزم “حزب الله” به. و”الحزب” وافق على هذا القرار بكل مندرجاته ولكنّه كان يأمل بأن يُنهي الحرب العسكرية ويوقف مسار استهدافه لكي يتملّص منه ويعيد بناء قدراته العسكرية ويستمر ممكساً بالقرار اللبناني.
بموجب هذا الاتفاق، إسرائيل تطلب من اللجنة أن يتدخل الجيش ويكشف على مواقع تحدّدها وتدّعي أنّها مخازن أسلحة لـ “الحزب”. اللجنة تطلب من الجيش. الجيش قد يتجاهل، أو يتحرّك، ويكشف، ويفيد بينما تكون المسيَّرات الإسرائيلية فوق رأسه تحلّق وتراقب الموقع المستهدف. هل يطلب الإذن من “حزب الله” أم لا؟ تلك هي المسألة التي تحكم طبيعة تحركه. بين الأطراف الثلاثة يصبح الجيش في موقف مربِك: عليه أن يلبّي طلب اللجنة الخماسية ولكنّه لا يمكن أن يكون غطاء لما تطلبه إسرائيل، ولا أن يعمل تحت السقف الذي يحدّده “حزب الله”.
من يرضى ومن يزعل؟
دخل الجيش أم لم يدخل؟ هل سمح له “الحزب” أم لم يسمح؟ هل كشف فعلاً أم مُنع من الكشف؟ هل وجد أسلحة بلغت عنها إسرائيل؟ حتى لو وجد، هل يعلن عن الكشف جهاراً؟ هل يعني ذلك أنّه يلعب دور المنفّذ لرغبات إسرائيل في أماكن لا يمكنها أن تصل إليها بحسب المعلومات المتوفّرة لديها عبر الوسائل التقنية أو البشرية؟ إذا فعل هل يُتهم بالتعامل مع إسرائيل؟ وإذا لم يفعل هل يُتّهم بالتعامل مع “حزب الله” والتغطية عليه؟
أسئلة تبقى الإجابات عليها غامضة خارج إطار البيانات التي لا تنفي ولا تثبت الوقائع على الأرض. لا يستطيع أن يرضي إسرائيل ولا يمكنه أن يزعِّل “حزب الله”.
كان من المفترض أن يبدأ الجيش تطبيق القرار 1701 بما ينصّ عليه من نزع سلاح “حزب الله” وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها منذ صدوره في 12 آب 2006. ولكن طبيعة الحكم مع عهد الرئيس إميل لحود والحكومات التي تعاقبت، حتى مع عهد الرئيس ميشال سليمان، تركت “الحزب” خارج المحاسبة وعلى العكس كان “الحزب” هو الذي يحاسب: يحاسب الحكم والحكومات والجيش وكل الذين يعارضونه. يهدّد بقطع الأيدي والأعناق وينفّذ التهديدات. بدأ باغتيال الرئيس رفيق الحريري وأكمل بغزوة 7 أيار 2008 وبسلسلة الاغتيالات قبلها وبعدها. بعد اتفاق وقف النار الذي وافق عليه مرغماً في 27 تشرين الثاني الماضي لم تعد لديه حجّة لكي يستمرّ بالتمسك بسلاحه، ولم يعد لدى العهد، حكماً وحكومة وجيشاً، حجة في عدم تنفيذ القرار 1701 ومعه القرار 1559 ونزع سلاح “الحزب” وكل سلاح غير شرعي.
الجيش لا يستطيع؟
صحيح أن الجيش بدأ مصادرة مخازن سلاح جنوب نهر الليطاني. وصحيح أنّ هناك كلاماً رسمياً عن العدد، 500 مخزن، ولكن يبقى هذا الأمر ناقصاً. قبل وقف النار بدأ الحديث عن أن الجيش حتى يستكمل انتشاره في الجنوب وينفّذ مندرجات القرار، يحتاج إلى تطويع ستة آلاف جندي وإلى تأمين موازنة وسلاح وأعتدة بعد فتح باب التطويع بقرار من مجلس الوزراء. وهذا الأمر يحتاج إلى فترات زمنية تقاس بالسنوات في حال تأمّنت كل المستلزمات الخاصة بالتطبيق، بينما تنفيذ القرار لا يمكن أن ينتظر كل هذا الوقت. بدا الكلام حول هذا الأمر وكأنّه اعتراف مسبق بأن الجيش لا يستطيع أن ينفذ القرار.
قرار تطويع 1500 جندي اتخذته حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في 6 تشرين الثاني 2024، عندما كان الرئيس جوزاف عون لا يزال قائداً للجيش، وقبل اتفاق وقف النار. وقد قال ميقاتي يومها: موقفنا وقرارنا هو الحفاظ على كرامة لبنان والحرص على احترام السّيادة الوطنيّة بكل مظاهرها، جواً وبحراً وبرّاً وقرارات دوليّة… المدخل الرئيسيّ لأي حلّ مقبول من لبنان، هو وقف الحرب علينا والتنفيذ الكامل للقرار 1701 والبدء بانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة”. واعتُبرت هذه الخطوة تكريساً لالتزامات لبنان في تطبيق القرار 1701، في اليوم التالي ما بعد الحرب.
استمرار الاغتيالات
ولكن، ثمة تطورات لا يمكن وضعها تحت سقف تطبيق القرار 1701 وسحب السلاح:
• استمرار العمليات الإسرائيلية من خلال استهداف عناصر وقيادات من “حزب الله” لا تزال تعمل في الجنوب. ومن خلال قصف أهداف في الضاحية الجنوبية وفي البقاع وعلى الحدود بين لبنان وسوريا تعتبر إسرائيل أنها مخازن لـ “الحزب”.
• استمرار عمليات تهريب الأسلحة من سوريا إلى لبنان بطرق مختلفة وسرية على رغم سقوط نظام الأسد، وقيام نظام جديد معارض لـ “حزب الله” وإيران. فالأسلحة المصادرة التي تكتشفها السلطات السورية الجديدة، سواء على الحدود مع العراق في طريقها إلى لبنان، أو على الحدود مع لبنان، ليست مجرّد أسلحة فردية استولى عليها بعض الأشخاص ليبيعوها إلى تجار أسلحة، كما حصل بعد انهيار النظام مباشرة. ولكن بين الأسلحة المصادرة صواريخ دقيقة وموجهة ومضادة للدروع وبعيدة المدى لا يمكن أن تكون للاستعمال الفردي. واللافت في هذا الموضوع أنه على رغم اعتقال من ينقلون هذه الأسلحة في سوريا لا يتم اعتقال أي من الذين يفترض أنها منقولة إليهم. ومن الواجب أن يكون هناك تنسيق مع السلطات السورية في هذا المجال والتخلف عن القيام بهذا الواجب يعتبر تقصيراً وغض نظر عن عمليات التسليح الحاصلة خصوصاً إذا كانت وجهة هذه الأسلحة إلى “حزب الله”. وهذا ما يسقط كل نظرية حصرية السلاح ومداهمة المخازن ومصادرتها.
• اعتراض دوريات “اليونيفيل”، في الجنوب وحتى في الضاحية الجنوبية، لأنّها تنفّذ مهمات من دون مواكبة الجيش اللبناني، وهذا من حقّها كما ينصّ قرار التمديد لمهمتها. وهذا الأمر يخفي غير ما يتم الإعلان عنه في البيانات حول نزع السلاح ومصادرة المخازن حيث يبدو مثل هذا الإعلان أحياناً وكأنّه دعائي ومحاولة لإيصال رسائل إذا لم تكن مبنية على أساس صلب من المعلومات لا يمكن أن تكون مقنعة.
• استمرار “حزب الله” في الإعلان عن تمسكه بسلاحه ورفض تسليمه. ومثل هذا الأمر يعبّر عن استراتيجية مستمرة ويلغي كل النظريات المعاكسة التي تتحدّث عن نزع السلاح ومصادرته.
تجارب حيّة في الضاحية
ما حصل في الضاحية الجنوبية ليل 5-6 حزيران، وقبله في آذار ونيسان، كشف الكثير مما يحيط بعمليات التهديد الإسرائيلية وبالطريقة التي تتصرّف بها السلطة اللبنانية. بحسب ما نُسب إلى مصادر إسرائيلية، أبلغت إسرائيل لبنان عن طريق واشنطن بالمعلومات عن المواقع التي تريد الكشف عليها، وواشنطن أبلغت الجيش والحكومة، ولكن السلطة اللبنانية لم تفعل شيئاً والجيش لم يقم بالتحرك المطلوب. السؤال الذي يُطرح هنا: هل على الجيش أن يتحرّك تلقائياً لتنفيذ كل الطلبات الإسرائيلية؟ وبالتالي هل يتحوّل إلى قوة استطلاع مبكر لخدمة إسرائيل؟ ما هو دور لجنة الإشراف؟ هل تنقل الرسائل فقط؟ أم عليها أيضاً أن تتحقّق من الطلبات الإسرائيلية لتعرف ما يجب أن تحيله إلى الجيش وما لا يجب أن تحيله؟ وهل هناك مهل زمنية للتحرّك أم إنّها تطلب تحركاً فورياً لا يمكن أن يكون الجيش قادراً في كل لحظة على تلبيته؟ وماذا يفعل الجيش بدوره؟ هل يبلّغ “حزب الله”؟ وهل يجب أن يحصل على موافقة “الحزب” حتى لا يحصل اصطدام؟ وهل المطلوب أن يحصل مثل هذا الاصطدام؟
بحسب بيان قيادة الجيش أن قوة منه حاولت الدخول إلى مواقع حدّدتها إسرائيل ولكنّه عجز عن ذلك بسبب القصف التحذيري. وهذا الأمر يقود إلى التساؤل أيضاً عمّا إذا كان تحرك الجيش الفوري بعد إطلاق أفيخاي أدرعي التهديد بإخلاء المناطق المحيطة بالمواقع المحددة صائباً وفي محله، أم مجرّد مجازفة غير محسوبة النتائج وبعد فوات الأوان؟ وهل كان يجب أن يتحرّك قبل الإنذار حتى لا يصدر الإنذار، ويبدأ القصف؟
فبحسب ما نسب إلى مصدر أمني إسرائيلي “لم يُقدم الجيش اللبناني على أي خطوة تجاه مستودع تصنيع مسيّرات” تابع لـ “حزب الله” في الضاحية الجنوبية، رغم تبلّغه معلومات عنه، والدولة اللبنانية لا تقوم بالكثير تجاه سلاح “حزب الله” شمال نهر الليطاني”.
هل تقبل إسرائيل بكشف الجيش؟
كيف يتحرك الجيش؟ لماذا لا يتحرك قبل البلاغات الإسرائيلية؟ هل تحركه جدي ويعطي الثقة بما يفعله؟ هل تقبل إسرائيل بالكشف؟
في تطوّر لافت، بدأت قوّة من الجيش اللبناني عصر الأحد، الكشفَ الميداني على مبنى سبق ودمر في الحرب في منطقة المريجة، وتحديداً ضمن مشروع الكاظم خلف مدرسة الإمام الصادق. وباشرت عملية الحفر في المبنى الذي أبلغت عنه لجنة وقف إطلاق النار تحت طائلة استهدافه. الصور التي وُزِّعت مع الخبر حول انتشار وحدات من الجيش وحول عمل الحفارات لم تكن كافية لإثبات جدية التحرك. بعدها تكررت أكثر من عملية كشف في منطقة السانت تيريز في الضاحية وغيرها بناء على معلومات من لجنة الإشراف. هذه التحركات للجيش أتت بعدما كانت القيادة حذرت في 6 حزيران من استمرار الاعتداءات الإسرائيلية وهدّدت بوقف التعامل مع اللجنة وأشارت إلى “أنها، فور إعلان العدو الإسرائيلي عن تهديداته، باشرت التنسيق مع لجنة مراقبة وقف الأعمال العدائية لمنع وقوع الاعتداء، فيما توجهت دوريات إلى عدد من المواقع للكشف عليها بالرغم من رفض العدو للاقتراح”. وإذ أكدت القيادة التزامها بتنفيذ القرار 1701 واتفاقية وقف الأعمال العدائية، لفتت إلى أن إمعان العدو الإسرائيلي في خرق الاتفاقية من شأنه أن يدفع المؤسسة العسكرية إلى تجميد التعاون مع لجنة مراقبة وقف الأعمال العدائية (Mechanism) في ما خص الكشف على المواقع…”. هذا التهديد لا يعكس طبيعة عمل المؤسسة العسكرية التي تنفّذ القرار الحكومي في هذا المجال ولا يمكنها بالتالي أن تجمّد التعاون مع لجنة الإشراف إلا إذا اقترن هذا الأمر بغطاء سياسي.
الأمر الأخطر في هذا المجال لا يتعلق بطريقة عمل الجيش أو بطريقة عمل لجنة الإشراف على وقف النار، بل بما يحكى عن احتمال رفض التمديد للقوات الدولية في الجنوب بعد التسريبات عن رغبة إسرائيلية أميركية مستمرة لوضع حد لوجود هذه القوات. عندها ماذا يمكن أن يفعل لبنان؟ وماذا يمكن أن يفعل الجيش لوحده؟ وهل يعني ذلك سقوط الرهان الأخير على الدعم الدولي لاستعاد السيادة اللبنانية؟ وهل تكون فرصة جديدة ضائعة على لبنان تهدد هذه المرة وحدته وهويته واستمراريته؟ وكيف يمكن فهم تصدي “الحزب” وجمهوره لدوريات “اليونيفيل” واضطرار الجيش إلى حماية تحرك هذه القوات في مهمة إضافية تضاف إلى مهامه الكثيرة. وماذا يمكنه أن يفعل لوحده من دونها؟