حين يصبح الجهل عقيدة… من يُنقذنا من أنفسنا ؟
"الأعداء لم يدخلوا من حدودنا، إنما تسلّلوا كالنمل من عيوبنا" – نزار قباني
بقلم خلود وتار قاسم
ما نعيشه اليوم، سواء في لبنان أو في هذا الشرق المتعب، أو حتى في عالم يترنّح بين أنفاس الحضارة وزفرات الانهيار، لم يولد من صدفة، ولم يهبط علينا من الغيب ككارثة مفاجئة. إنّما هو حصاد مرّ، زرعه ماضينا، وسقته أيادينا، وقطفناه نحن، صامتين، خانعين، وأحيانًا فرحين بوهم الإنجاز.
واقعنا المأزوم هو نتيجة تراكمات فكرية واجتماعية وثقافية ترسّبت عبر أجيال. بنينا على أوهام مجدٍ زائف، وتوارثنا خرافات على أنها حقائق، وألبسنا العادات ثوب الدين، وعبدنا الطائفة بدل الإنسان. تَبنّينا كل ذلك بعين مغمضة، وقلب مرتجف من الخوف، وعقل غُيّب تحت ركام الشعارات والرموز.
في زمن صار فيه الوصول إلى المعلومة أسهل من شربة ماء، ما زلنا نختبئ خلف جدران الجهل، ونمارس ترف التبرير، ونرفع سيوف الدفاع عن هويات مريضة، بدل أن نمارس فضيلة النقد الذاتي والتفكير الحر. نعيش في سجون فكرية نحمل مفاتيحها بأيدينا، ونرفض الخروج منها خوفًا من الضياع، متناسين أن من يخشى الضياع لا يمكنه أبدًا أن يجد الطريق.
كل طائفة تخشى الانقراض، فتتمسّك بخرافاتها أكثر. كل حزب يرى في الآخر تهديدًا، لا شريكًا في الوطن. كل فرد يعتقد أن الحقيقة معه وحده، وأن المختلف خائن أو ضال. وهكذا تحوّلنا إلى جزر معزولة، تحكمها الأوهام، وتلتهمها الكراهية، وتنخرها الشكوك.
والكارثة الأكبر أننا نرث هذا العطب ونورثه، من غير أن نطرح السؤال الجوهري: لماذا؟
لماذا لا نملك شجاعة المراجعة؟
لماذا نفضّل الصراع على التفاهم؟
لماذا نُقدّس الجهل ونعادي العقل؟
لماذا ندفن الحقيقة في مقابر الموروثات؟
الله يقول: “إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم”…
لكننا نُصلّي لتتغيّر الظروف، لا أنفسنا. نلعن الظلام، لكننا لا نُشعل شمعة. نُحمّل الآخرين المسؤولية، بينما نغضّ الطرف عن دورنا في الفساد، في التواطؤ، في السكوت.
أيّها الأصدقاء، لسنا ضحايا فقط، نحن في كثير من الأحيان شركاء في ما يجري، بإرادتنا أو بسكوتنا أو بخوفنا.
المسؤولية لم تعد ترفًا أخلاقيًا، بل أصبحت ضرورة وجودية.
إن لم نتحمّل مسؤوليتنا اليوم، فغدًا سيكون مجرد نسخة مشوّهة من اليوم، وربما أسوأ.
الإنسانية لا تزدهر في التقوقع، ولا تنمو في العزلة، ولا تتطور تحت رايات الطائفية والمذهبية والمناطقية.
وطننا، ومستقبلنا، وإنسانيتنا… جميعها تنتظر لحظة صدق واحدة: لحظة نواجه فيها أنفسنا كما هي، لا كما نحب أن نراها.
كفانا هروبًا. كفانا تعلّقًا بالماضي وكأنه الجنة المفقودة. كفانا بناء هوياتنا من خلال رفض الآخر.
آن الأوان لنفكر، لنحاور، لنختلف باحترام، لنبني على ما يجمع لا ما يُفرّق، لنعيد للإنسان قيمته، بعيدًا عن الطائفة والعرق والانتماء الضيّق.
“لا يولد الإنسان متعصبًا، لكن المجتمع يُرضعه الطائفية كما يُرضعه الحليب.” – أنسي الحاج
“الوطن ليس فندقًا نغادره عندما تسوء الخدمة، بل هو بيت نُصلحه حين يتداعى.” – محمود درويش
كلّنا مسؤول… ولا خلاص إلا بمسؤولية جماعية تبدأ من الذات وتنتهي بوطن يتّسع للجميع.