لبنان بين نار التسوية وجحيم السلاح

كتب د. كارلوس نفاع في الجمهورية

مَن قرأ أحداث 1840 يعتقد أنّها كانت لحظة انهيار للوجود المصري وحلفائه في جبل لبنان، لكنّ الحقيقة أنّها كانت لحظة إعادة تشكيل السلطة والمجتمع، طُوِيَت فيها صفحة فيَضان النيل العسكري والسياسي التي تركت أرضاً خصبة للتنافس والصراع الطابقي بين الفلاحين والإقطاع، وبُنيت صفحة جديدة برعاية دولية ومحلية قوامها تقليص نفوذ السلاح الأجنبي، وتكريس ملامح جديدة للسلطة بولادة ثنائي القائمقاميتين الجنوبية والشمالية. في ذلك الزمن كانت جونية هي الواجهة البحرية التي استُخدمت لإنزال القوات البريطانية المؤيّدة للعثمانيِّين لطرد الجيش المصري، وكانت الظروف الاقتصادية الصعبة أحد محرّكات ثورة الفلاحين.

على رغم من انسحاب القوات المصرية من جبل لبنان عام 1840، فإنّ التأثير المصري استمر بشكل غير مباشر، متغلغلاً في بنية الإدارة المحلية والذاكرة السياسية والطائفية. إذ حافظ بعض الضباط والإداريِّين المحليِّين الذين تعاونوا مع السلطة المصرية على نفوذ اجتماعي ومعنوي، لا سيّما في المناطق الجنوبية من جبل لبنان، حيث ظلّ هذا الإرث حاضراً في استفحال العائلات الاقطاعية.

إلى جانب البُعد الإداري، لعبت الولاءات المحلية دوراً حاسماً، إذ إنّ بعض الزعامات الدرزية استفادت من العلاقة مع الحكم المصري، ما جعلها أكثر تحفّظاً حيال عودة النفوذ العثماني، ممّا ساهم لاحقاً في تعميق التوترات الطبقية التي اتخذت لاحقاً طابعاً طائفياً، في ظل غياب توازن حقيقي في تقاسم السلطة والتمثيل.

على المستوى السياسي، تحوّلت فترة الحُكم المصري إلى مرجعية خطابية لبعض القوى المحلية، تُستحضر عند المقارنة بين سياسات العثمانيِّين والمصريِّين، خصوصاً في قضايا حساسة مثل المساواة بين الطوائف، نزع السلاح، وضمان حماية الأقليات. هذه الذاكرة السياسية استُخدمت لاحقاً لإعادة طرح أسئلة السيادة، الشرعية، وتوزيع القوة في البنية اللبنانية المتحوّلة مع التغيّرات الإقليمية والدولية التي رضي لبنان أن يكون لها مسرحاً.

اليوم، بعد قرابة قرنَين، نشهد مشهداً لا يخلو من تشابه صارخ، انهيار اقتصادي، احتقان إقليمي، سلاح ثقيل يفرض شروطه داخلياً، وقوة دولية تُمسِك بمفتاح التهدئة، لكن مع فارق فادح «لا مشروع واضحاً لما بعد السلاح».

اليوم نشهد إدارة لجنة خماسية بتفاهم دولي إقليمي، تضمّ الولايات المتحدة، فرنسا، لبنان، إسرائيل، وقوة «اليونيفيل»، لترعى تنفيذ اتفاق وقف إطلاق نار بين «حزب الله» وإسرائيل. مشهد يبدو ظاهرياً أمني الطابع، لكنّه في العمق سياسي التوجّه، لأنّه للمرّة الأولى منذ عقود تُربط شرعية السلاح بمصالح وطنية لبنانية قابلة للقياس والمساءلة، في ظل تبدّلات إقليمية جذرية.

فمَن يقرأ بيان المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان بالأمس، يدرك أنّ هناك إلحاحاً يقول بوضوح «إنّ الشراكة الوطنية لم تَعُد قادرة على الاستمرار بصيغتها الطائفية الحالية». ويذهب البيان إلى طرح عملي، فاعتبر قبلان: «لا قيام لمشروع وطني بلا قانون انتخابي يُطيح بالنزعة الطائفية». فهو يُعبّر عن لحظة إدراك داخل بيئة السلاح، أنّ السقف الإقليمي بدأ ينخفض، وأنّ الاستمرار بالنهج السابق بات مكلفاً إن لم يكن شبه مستحيل من دون مقايضة ما تبقّى على صيغة جديدة، ولو يبدو ذلك متأخّراً.

تماماً كما في 1840، سنكون اليوم أمام لحظة فارقة تُطرح فيها أسئلة مصيرية، أهمها قد يكون، لِمَن تكون من قوى الثنائي الامتيازات مقابل السلاح؟ هل هناك مَن يقبل أن يضع شروط دولة دستور الطائف في وجه شروط سلاح ولاية الفقيه؟ مَن يجرؤ على قول الحقيقة أنّ مرحلة «المقدّس السياسي» انتهت، وأنّ فائض القوة لم يَعُد مكسباً بل عبئاً؟

أكثر ما في المشهد مدعاة للقلق، أنّ بعض أهل السلطة، كما في القرن الـ19، يظنّون أنّ إشعال الفوضى سيمنع المحاسبة. لكنّ تجارب التاريخ تقول، حين تنكسر موازين القوى الكبرى، يسقط معها الكبار كل مَن يعتبرون أنفسهم كباراً.

ما قاله قبلان ليس دعوة بريئة لإصلاح انتخابي، بل إعلان بأنّ عهد مقايضة «السلاح مقابل حماية الطائفة» انتهى. لم يَعُد السلاح ضمانة، بل أصبح ورقة تفاوض لا بدّ من أن تُقابلها تنازلات من البعض، وضمان الشراكة في الاقتصاد، وفي بنية الدولة.

إنّ لبنان، كما في محطات الانهيارات الكبرى في السلطنة العثمانية، أمام مفترق طرق، إمّا يَسير في ركب التحوّلات الإقليمية والدولية ليُعيد إنتاج نفسه بهوية حيادية دامجة للتنوّع، مُعيداً دوره بوابة لمشرق جديد يتنافس فيه الأعداء والأصدقاء، أو يبقى رهينة الصراعات الإقليمية التي تستفيد من غطاء السرديات الطائفية المتقوقعة حتى إتمام التسويات الإقليمية، التي ستكون عندها على حسابه حتماً، خصوصاً بعدما فتح تصريح السفير الأميركي توم براك في تركيا بازار التنافس الإقليمي على الموارد كافة: «قسّمت اتفاقية سايكس-بيكو سوريا ومنطقة أوسع، ليس من أجل السلام بل من أجل المكاسب الإمبريالية. وكلّف هذا الخطأ أجيالاً عديدة. لن نُكرّر الخطأ مرّة أخرى. انتهى عصر التدخّل الغربي. المستقبل هو للديبلوماسية القائمة على الحلول الإقليمية، الشراكات، والاحترام».

عام 1840 نُفي زعماء وصودِرَت أملاك، واليوم كل فريق اغتيلت قياداته وإن بفارق زمني، والنفي السياسي تمّ بإنتفاء الدور، وقد يظهر في صناديق الاقتراع أو من بوابة تفجير مرفأ بيروت أو من نتائج الاحتيال المالي أو حتى من بوابات تهريب النفط الروسي وشبكات الدواء المزوّر وغيرها من أبواب مواخير الفساد التي أدارها الجميع كلاً في زمنه.

نحن في زمن انتهت فيه الحصانات، وبدأت فيه كتابة لبنان الجديد، من دونهم «كلن يعني كلن» من دون أن يشبه هذا الجديد أياً من الأدوار السابقة.

إنّنا عند مفترق طرق، فهل لدى السلطة التنفيذية والتشريعية ورأس الدولة الرؤية التي تُعيد إطلاق عجلة الدولة اللبنانية واستعادة سيادتها واقتصادها ودورها الحاضن للجميع؟ أم تبقى رهينة التصفيات الإقليمية؟ التاريخ لا ينتظر، والأطراف كلها في سباق سريع مع الزمن.

اخترنا لك