بقلم محمود شعيب – كاتب وناشط سياسي
في الزمن الذي تتغيّر فيه خرائط القوة في المنطقة، وتسقط فيه الأقنعة، لم يعد ممكناً دفن الحقيقة خلف الشعارات الرنانة. ما يشهده النظام الإيراني و حرسه الثوري، وامتداده العضوي في لبنان المتمثل بحزب الله، ليس “خرقًا أمنيًا” عابرًا، بل انهيارًا تدريجيًا لأمن بني على وهم العظمة وغرور العصمة، وعلى سياسة استخبارية مختلّة وخاطئة، استبدلت العمل الأمني الجاد بخبريات “نسوان الفرن”، وتقارير الأقلام المأجورة(جماعة ٥٠٠$)، ووشايات زبائن الإكسبراس.
لقد بنى حزب الله جهازه الأمني، في العقد الأخير، على قاعدة: “أعطني اسمًا وسأخترع له تهمة”. كل من عبّر عن موقف مخالف، وخصوصًا من أبناء بيئته الشيعية، تحوّل فورًا إلى عدو مشتبه به، عميل محتمل، ومشروع خطر. لم يكن العدو الإسرائيلي أولوية، ولا التهديد الجدي شغله الشاغل. بل كانت الأولوية ملاحقة الكلمة الحرة، خنق الرأي، وتشويه سمعة المعارض، خصوصًا إذا كان الشيعي صاحب ضمير، يرفض الصمت، ويرفض أن يكون غنمًا في قطيع يتهاوى تحت سوس الفساد والغرور.
المنظومة الأمنية للحزب، التي كان يفترض بها حماية “المقاومة”، تحوّلت إلى جهاز بوليسي رديء، يتغذّى على الحقد، والغيرة، والنميمة السياسية. تركوا الممرات الحقيقية مشرّعة أمام الاختراق، وانشغلوا بتفتيش الجيوب والأذهان والصفحات الشخصية. فبينما العدو الحقيقي كان يحفر في صمت داخل جسمهم، كانوا يطاردون تغريدة، أو ينظمون ملفًا مفبركًا لناشط، أو يحشدون فبركات ضد صحافي رفض أن يصفق.
لم يسقطوا لأن إسرائيل باتت أقوى فقط. بل لأنهم صاروا هم أضعف. سلاحهم لم يعد رادعًا، بل صار عبئًا. وهيبتهم لم تعد واقية، بل صارت مكشوفة. والعقل الذي كان يجب أن يحرس المشروع، استُبدل بعصابة من صغار النفوس وكبار الكروش، ضعاف الأداء وأصحاب الأصوات الناعقة.
في لبنان تحديدًا، أخطأ حزب الله حين ظن أن امتلاك السلاح يعني امتلاك الحقيقة. وأن من يعارض خياراته السياسية، أو ينتقد تحالفاته مع الفاسدين، هو متآمر ومرتزق. وهكذا، بدل أن يُحصّن بيته الداخلي من الاختراق، انشغل بتجريم أبناء بيئته، وتمزيق ما تبقى من الثقة بينهم وبينه. فصار الصوت الشيعي الحر هو العدو الأول، بينما كان العدو الحقيقي ينام مطمئنًا بين ضباطه وخبرائه وقادة وحداته في لبنان.
هنا، انقلب المشهد. اهتز الردع، وسقطت الهالة، وارتبك القادة. ولم تعد بيانات النفي ولا تهديدات الردّ تُقنع حتى جمهورهم. والأسئلة التي كانت whispered (همسًا)، باتت تُقال جهارًا: من الذي خان؟ ومن الذي أسقط؟ ومن الذي استبدل العدو الحقيقي، بناشط شيعي حرّ، لم يقل سوى “كفى”؟
الجواب معروف، لكن الجُبن يمنعهم من النطق به: لقد سقطوا لأنهم خانوا الفكرة والمسيرة. لأنهم خذلوا الناس. لأنهم أطاعوا “الخبريات”، وصدقوا “السعاة”، واغتالوا الصوت .
واليوم، في لحظة الحقيقة، لا يكفي الإنكار، ولا التذاكي، ولا تحميل المسؤولية للعدو. إذا كان في الحزب ما تبقى من شجاعة أخلاقية، فعليهم أن يبدأوا بالاعتذار.
نعم، الاعتذار. لا للخصوم، بل لأبناء بيتهم. للشيعة الذين حوّلتوهم إلى متّهمين. للمثقفين الذين شيطنتموهم لأنهم فكروا. للناشطين الذين نزعتم عنهم شرف الانتماء فقط لأنهم لم يركعوا.
اعتذروا من الذين رفضوا أن يكونوا مجرد صدى. من الذين قاوموا سطوتكم الفكرية كما قاومتم أنتم الاحتلال يومًا.
الله قد يسامح، نعم.
والناس قد تسامح، ربما.
لكن التاريخ لا ينسى من خان الحقيقة، ومن استبدلها بمجد زائفٍ مبني على الصمت والخوف او الاستفادة.
والشعب، حين ينهض، لا يسامح من قتل فيه الأمل، ومن دفن فيه الكلمة، ومن تجرأ على كرامته.يا من صنعتم المجد بمقاومة إسرائيل… لا تنهوا مسيرتكم بمقاومة أبناء بيئتكم.
العدو لم يأتِ من الجنوب، بل خرج من داخل صفوفكم، وغطّاه غروركم.