نهاية وهم “محور المقاومة” : وقف النار يكشف سقوط المشروع الإيراني

بقلم محمود شعيب – كاتب وناشط سياسي

في لحظة دقيقة ومفصلية، تزامن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران مع لحظة الإعلان العملي لسقوط ما يُعرف بمحور “الوهم” أو، بالأدق، “محور الشر”. هذه اللحظة كشفت تحوّلاً استراتيجياً غير معلن، لكنه صارخ، تمثل في تجريد إيران من ورقتها الأخيرة: وهم المشروع النووي، الذي طالما استخدمته أداة لابتزاز المجتمع الدولي، ووسيلة استقواء على دول الخليج والمنطقة العربية.

إيران التي ظنت أنها بتهديداتها النووية قادرة على فرض شروطها على الإقليم والعالم، وجدت نفسها فجأة محاصرة، مكشوفة، وعاجزة عن الفعل في أي من الجبهات المفتوحة، إلا من خلال تحريك مجموعات إرهابية متهالكة مثل داعش (تفجير كنيسة مار الياس في سوريا) وبعض الأذرع الطائفية التي لم تعد تملك مصداقية و شرعية ولا قدرة حقيقية على قلب المعادلات. سقط سلاح الابتزاز النووي، بعدما تبيّن أن الجمهورية الإسلامية لا تملك الجرأة ولا القوة الفعلية للذهاب نحو مواجهة شاملة، وأن مشروعها بات ورقة محروقة دولياً وإقليمياً.

المفارقة الكبرى في المشهد أن من أنقذ النظام الإيراني مؤقتاً من السقوط لم يكن حلفاءه التقليديون، بل خصمه الأبرز: الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. عندما انسحب ترامب من الاتفاق النووي في عام 2018، كان يبدو وكأنه يوجّه ضربة قاصمة للنظام، لكن الواقع كشف أن تلك الضربة شكّلت له فرصة غير متوقعة للبقاء، إذ سمحت له بإعادة إنتاج خطاب المواجهة مع “الشيطان الأكبر”، ووفرت له شرعية داخلية لممارسة المزيد من القمع، وتصدير الأزمات إلى الخارج. كان ترامب بمثابة جهاز التنفس الصناعي للنظام الإيراني، لا من باب الدعم أو التواطؤ، بل كخيار استراتيجي يهدف إلى إبقاء النظام حيًّا بشكل مؤقت، إلى أن يتوفر بديل يسمح بانتقال سلمي للسلطة أو إسقاط النظام بأقل تكلفة ممكنة.

هذا التمديد الموقت لعمر النظام لم يكن نتيجة قوة إيرانية، بل نتيجة حسابات أميركية باردة تمنع الانهيار المفاجئ خوفًا من الفوضى في منطقة تعاني أصلاً من هشاشة شديدة. إلا أن ما تكشف لاحقاً أن هذه الفسحة الزمنية لم تُستخدم في ترميم الشرعية أو تقوية الدولة، بل في مضاعفة القبضة الأمنية وتحريك الوكلاء في غزة واليمن ولبنان والعراق وسوريا، بما أدى إلى تسريع تآكل النفوذ الإيراني بدل تثبيته بعد ضربهم.

العدوان الإيراني الأخير على قطر، رغم صغره، شكّل لحظة رمزية فارقة. كانت تلك الحادثة بمثابة كسر للصورة النمطية التي رسمتها طهران عن نفسها كمدافع عن “المظلومين” و”القضية الفلسطينية”. الشعوب العربية، التي طالما شكت من ازدواجية خطاب إيران، رأت بأمّ العين كيف أن النظام الإيراني نفسه الذي يدّعي المقاومة، لا يتردد في استخدام قوته لابتزاز دولة خليجية، وتهديد أمنها وسيادتها، ما كشف الطبيعة الحقيقية للمشروع الإيراني القائم على التوسع لا على المبادئ.

حتى في لبنان، حيث كان الذراع الأقوى لإيران يتفاخر بدوره في ما يُسمى “خط الدفاع عن فلسطين”، بدأت الأقنعة تتساقط. فالمواطن اللبناني، الذي يعيش اليوم تحت الفقر والعزلة والعقوبات والانهيار الاقتصادي والدمار ، بات يعلم أن هذا السلاح الذي رُفع باسم فلسطين، هو نفسه الذي خنق لبنان وأدخله في العتمة، وحوّل الدولة إلى رهينة مشروع إقليمي لا يشبهها.

في ضوء هذه الوقائع، لم يعد لإيران أي نفوذ يُذكر في الشرق الأوسط، سوى عبر أدوات عنفيه محدودة ومستهلكة. لم يعد هناك مشروع سياسي يمكن ترويجه، ولا عمق شعبي يمكن الاستناد إليه، ولا حتى غطاء دولي يسمح لها بالتحرك كما كانت تفعل سابقاً. إنها مرحلة انكفاء، بل إنها بداية النهاية لنظام استنفد كل أوراقه وبات يعيش على التنفس الاصطناعي السياسي الذي يأمنه ترامب مؤقتًا، بانتظار لحظة اقتلاع أو تسوية نهائية.

وقف إطلاق النار لم يكن نهاية معركة، بل بداية حقبة جديدة، لم يعد فيها للمشروع الإيراني مساحة للمراوغة. النظام الذي عاش على الحروب والتهديدات يجد نفسه اليوم في عزلة مزدوجة: داخلية تتمثل بسقوط شرعيته أمام شعبه، وخارجية بانهيار قدرته على التأثير في معادلات المنطقة. ونحن اليوم أمام فرصة نادرة، ليس فقط لتفكيك المشروع الإيراني، بل لإعادة بناء محور عربي إسلامي حقيقي، يقوم على التكامل والتنمية، لا على الطائفية والحروب بالوكالة.

لقد انتهى زمن الشعارات. التي وُلدت على الورق و ماتت على أرض الواقع. وما بين لحظة وقف إطلاق النار، ولحظة انهيار المشروع الإيراني، يُكتب فصل جديد من تاريخ المنطقة، عنوانه: نهاية وهم، وبداية وعي عربي جديد

اخترنا لك