عقيدة توم باراك و”دِكنجية” البيع بالقطعة

بقلم مكرم رباح

قَدِمَ المبعوث الرئاسي الأميركي لسوريا، توم باراك، إلى لبنان الأسبوع الفائت في زيارة قصيرة نسبياً التقى خلالها أركان السلطة، وذلك في إطار المساعي الدولية المتواصلة لتذكير السلطات بضرورة الإسراع في تنفيذ التزاماتها الدولية، وعلى رأسها نزع سلاح “حزب الله” والمضي قُدُمًا في الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وبهذا التسلسل على وجه التحديد.

بطبيعة الحال، استقبل المسؤولون اللبنانيون باراك بحفاوة ملحوظة تختلف عن ترحيبهم بالمبعوثة السابقة مورغان أورتاغوس، التي رفضت تغليف خطابها بأي نوع من الحذاقة أو الدبلوماسية، ما أحرج الساسة اللبنانيين المُتقنين لفن الخِداع والمماطلة، والرافضين لأي إصلاح أو تغيير حقيقي. انعكس الموقف الرسمي اللبناني من الزيارة عبر أبواق السلطة التي وصفت تلك الزيارة بالهادئة واللطيفة، مُتناسين أو ربما مُتغافلين عن أن توم باراك وما يُمثله، سيكون في الواقع أكثر شراسة من أورتاغوس بالنسبة للملف اللبناني، وأكثر إصراراً على تجريد فرع الحرس الثوري الإيراني في لبنان من بقايا سلاحه.

توم باراك، الزحلاوي الأصل، هو “قَيصر السلام الإبراهيمي” المُنتظر بين سوريا ولبنان من جهة، وبينهما وبين إسرائيل من جهة أخرى. إنه دورٌ تَعهّد به باراك أمام صديقه الشخصي الرئيس دونالد ترامب، مَفاده أن سوريا ولبنان سيكونان من ضمن الدول الموقّعة على اتفاقات أبراهام؛ واقعٌ يحاول الرؤساء جوزاف عون، ونبيه بري، ونواف سلام تجاهله عبر التركيز على التلال الخمس المحتلة من قبل إسرائيل، من دون تحديد أي إطار زمني واضح لنزع السلاح من جنوب الليطاني أو من المناطق الأخرى.

ضمن هذا السياق، حَلّت زيارة باراك لإزالة الخلافات لا بين لبنان وإسرائيل فحسب، بل بين لبنان وسوريا أيضاً، وذلك من خلال إغلاق ملف مزارع شبعا، الذي لطالما استُخدم من قبل نظام بشار الأسد كذريعة للإبقاء على سلاح “حزب الله”. أما بالنسبة لمهامِه في الشق السوري، فإن علاقة باراك الوثيقة بالرئيس أحمد الشرع وتعاون الأخير في الملفات الأساسية، وعلى رأسها العلاقة مع إسرائيل، تضع لبنان وطبقته السياسية في خانة جديدة: خانة المُعَرقلين لمسار السلام.

وفي حين يروّج اللبنانيون أن العائق الأساس للسلم كان النظام السوري السابق، تبدو سوريا اليوم، في تركيبتها الحالية، تندفع نحو السلام ليس خدمةً لترامب أو نتنياهو، بل انطلاقًا من أن السلام هو ضرورة وحاجة وطنية سورية، على عكس لبنان الذي يتخبط في ملف “القضية الفلسطينية”.

سوريا، بقيادتها الحالية، تتفوق على لبنان وحُكامه لجهة الرعاية الدولية والإقليمية. ورغم بطء وتيرة إعادة هيكلة الدولة السورية، وفي ظل التحديات الكبرى التي يفرضها تنظيم داعش (بنسخته الأصلية أو الإيرانية) ووَسَط مخاوف الأقليات، إلا أن سوريا لا تزال تسلك المسار الصحيح. أما في لبنان، رسمياً وشعبياً، فالإنكار لواقع المتغيرات الإقليمية هو سَيّد الموقف، لا سيما أن الحرب الأخيرة على إيران لم تهدف فقط لكسر محور الممانعة، بل أيضاً لتهشيم أحد أخطر أمراض لبنان المزمنة: وهو فرادة البلد وحذاقة شعبه الفائقة.

قد تبدو “عقيدة توم باراك” لائقة في ظاهرها، لكنها في جوهرها تعكس واقعية إدارة ترامب، التي لن تقدّم شيئاً مجاناً. فعندما يجلس باراك في ديوان نبيه بري، يتوقع منه أن يتصرّف كرئيس لمجلس النواب، لا كرئيس لـ “حركة أمل” أو كدرع سياسي لـ “حزب الله”، وإلا على طريقة ترامب فإن العقوبات الأميركية ستكون بالمرصاد.

باراك، كغيره من أركان إدارة ترامب، يَنحَدر من عالم المال والأعمال، بينما ساسة لبنان هم مثل “دِكنجية” البيع بالقطعة يظنون أن الكلام في الغرف المغلقة لا تترتب عليه أي تبعات، وأن بإمكانهم الإفلات من موجة السلام المقبلة حتى لو كانت تصبّ في مصلحة لبنان واللبنانيين. إلا أن هذا التذاكي السياسي قد يُسرّع في تحرير الشعب اللبناني من هذه الطبقة الحاكمة… وربما في وقت سابق لأوانه.

اخترنا لك