حين تكون الصدمة أكبر من الحنين

قصة واقعية جرت أحداثها منذ شهر تقريباً

كتب د. بلال عدنان علامة – باحث سياسي واقتصادي

حين يزورك صديق عزيز بعد غياب، تتوقّع أن يحمل معه الحنين والذكريات، وربما شيئاً من الدهشة لما تغيّر وما بقي. لكن زيارة صديقي الأخيرة لي لم تكن زيارة عادية. جاء محمّلاً بالشوق، لكنه صُدم بما رآه وعرفه . هاله هذا الوطن الذي يعرفه جيداً، والذي بالكاد يتعرّف إليه بعد كلّ ما يحصل. لم تكن شوارع بيروت كما حفظها، ولا وجوه الناس كما يتذكّرها، ولا تلك الحياة النابضة بالأمل كما إعتاد أن يراها. رأى وطناً منهكاً، ملامحه متعبة، مدنه تئنّ تحت وطأة الانهيار، وأهله يحاولون التمسّك بفتات الأمل وسط ركام الأزمات .

سألني مستغرباً :

أين لبنان الذي كنّا نحكي عنه ؟ أين ذاك الوطن الذي يُقاوم دائماً ويُعيد النهوض من تحت الركام؟” لم أملك جواباً سهلاً، لكنني أدركت أن الصدمة التي عاشها هذا الصديق ليست سوى إنعكاس لما نعيشه نحن كلّ يوم … ربما نحن إعتدنا المشهد، أمّا هو، فكانت رؤيته صافية، موجعة، وكاشفة لحقيقة لا يمكن إنكارها: الآمال التي عُقدت على خطاب القسم والبيان الوزاري قد تبخّرت، وما تبقّى لهذا البلد هو الموت المحتم والأكيد .

إليكم قصة الزيارة التي قام بها صديقي، والحديث الذي دار بيننا، كما كتبها وأرسلها لي مشكوراً ….

مررت بصديق يكبرني سناً ووطنية. لطالما إعتدت أن أزوره لأتزوّد بتحليلاته “الإقليمية والدولية، وكان بارعاً في ربط الأحداث ضمن سلاسل منطقية تُقنعك أنّ خلف هذا العبث الظاهر نظاماً خفياً يحكم اللعبة .

اليوم، كغير عادته، كان يغرق بين أوراقه، وفناجين قهوته، وسجائره المتلاحقة. يفتح هاتفه، تجحظ عيناه، يتمتم بكلمات غير مفهومة، ثم يُغلقه .

أعاد الكرّة عدة مرات، حتى أثار فضولي فسألته :

خير إن شاء الله ؟ شو القصة يا أستاذ ؟

ابتسم بمرارة وأجابني :

بتعرف أمّونزز؟

مين أمّونزز؟

– – يللي اللي كانت تغنّي (هيلا هيلا هيلا هو… فلان الفلاني هو وأمّو) أيام ثورة 17 تشرين… – هيك شي، شو فيها؟

فتح هاتفه مجدداً، ثم أدار الشاشة نحوي وقال :

– -عم تقول إنها شافت بعيونو العزم والجدية بنهضة لبنان

نظرت إلى الصورة، نعم تذكّرتها. هززت رأسي، وقلت له بنبرة نصف ساخرة ونصف حزينة :

– يا صديقي، موضوع نزع السلاح من المخيمات الفلسطينية ما بينحل هيك … بالصورة والوعود الفارغة …

سألني مبتسماً بسخرية مُرّة :

-هل طلبت موعد للقائه ؟ يمكن تحصل على صورة

أجبته سريعاً :

– لا، أبداً… عندي شغل كتير… عم إشتغل على تحليل سبب إنخفاض عدد طلاب المدارس الرسمية، بالرغم من الضائقة المالية الخانقة ….

هز صديقي برأسه اعجاباً. أثنى على عملي وتركتني جريحاً بين تحليلاتي …

يتابع ،خرجت من عنده وأنا أهزّ رأسي، أكثر حيرة مما دخلت، وبات يقيني أكبر بأنّ السؤال الحقيقي اليوم لم يعد: “هل هناك أمل ؟”، بل أصبح: ” هل بقي في هذا البلد ما يستحقّ الحياة “؟

اخترنا لك