بقلم حيدر الأمين
إن ربط الصراعات بالدين وتحويله إلى أداة في النزاعات السياسية لم يكن يومًا تعبيرًا عن إيمان صادق، بل غالبًا ما كان وسيلة دنيوية لخدمة مشاريع سلطوية تسعى لحشد الناس عاطفيًا وتعبئتهم باسم المقدّس. والمقصود “باسم المقدّس” هو استخدام الدين أو رموزه ونصوصه المقدسة لإضفاء شرعية زائفة على مشاريع بشرية لا تمتُّ إلى جوهر الإيمان بصلة.
قال تعالى: “ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون” (البقرة: 42)، في إشارة إلى خطورة خلط الدين بالمصالح وطمس معالم الحقيقة باسم القداسة.
وهذا ما حذّر منه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين قال: “إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصدّ عن الحق …” (نهج البلاغة، خطبة 42)، لأن الهوى إذا تلبس بلباس الدين، يتحول إلى استبداد مقدّس لا يُسائله أحد.
لقد أدى هذا التوظيف النفعي للدين إلى نتائج خطيرة، أبرزها تشويه صورته في الوعي الجمعي، وتآكل ثقة الناس به كقيمة أخلاقية وإنسانية. وتجربة الأحزاب الإسلامية في الحكم كانت نموذجًا حيًا على هذا الانحراف، إذ لم تُثمر عن مؤسسات عادلة أو نظم ناجحة، بل عمقت الاستقطاب، وحوّلت الدين إلى شعارات لا تنعكس في واقع الناس، وتسببت بضرر بالغ على المجتمعات التي نشأت فيها.
لم يكن الإشكال في الدين نفسه، بل في الذين احتكروه وفهموه بمنظور ضيق دنيوي، حوّلوه إلى أداة للهيمنة لا للهداية، للسلطة لا للإصلاح. وفي مواجهة هذا التطرّف، وجدت دائمًا أصوات معتدلة تحمل فكرًا راقيًا يعلي من شأن العقل والاجتهاد، وتُقدّم الدين كرسالة رحمة وقيم، لا كسلطة قمع.
وقد وصف اللّٰه تعالى الأمة المسلمة بأنها: “أمة وسطًا” (البقرة: 143)، في تأكيد على أن الاعتدال جوهر الدين لا استثناء منه.
وقال الإمام جعفر الصادق (٤): “كونوا لنا زينًا، ولا تكونوا علينا شينًا… حببونا إلى الناس ولا تبغضونا إليهم.” (الكافي، ج2، ص77)، في دعوة لأن يكون التدين تمثيلًا للجمال لا للفظاظة.
ومع ذلك، غالبًا ما قُمعت هذه الأصوات من جهتين: من المتشددين الذين يخشون ضوء العقل، ومن الأنظمة السلطوية التي ترى في الاعتدال خطرًا على نفوذها، لأنه يحرّر الإنسان من التبعية ويمنحه مناعة فكرية وروحية.
وقد عبر الإمام علي (عليه السلام) عن جوهر هذا المنهج العقلي بقوله: “قيمة كل امرئ ما يُحسن”، وفي موضع آخر قال: ‘العقل عقلان: عقل مطبوع وعقل مسموع، ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع” (نهج البلاغة، الحكمة 275).
كلمات تختصر دعوة كبرى لاحترام الذات المفكرة لا المنقادة، وتؤكد أن الدين لا يُفهم إلا عبر عقل حيّ، لا عقل يقتات على التلقين. فالعقل هنا ليس تابعًا للسلطة أو الجماعة، بل شريك في الفهم، والتمييز، والاجتهاد. ومن العجب العجاب أن الأنظمة الحالية التي تتغنّى بمشاريع إصلاحية أو مدنية، لم تتبنَّ الاعتدال كخيار ثقافي وفكري حقيقي. فهي وإن رفعت شعارات الحداثة، ما زالت تحارب الفكر الديني المعتدل لأنه يُعرّي ازدواجيتها، ويكشف هشاشة مشاريعها التي لا تستقيم مع قيم العدل والحرية والاجتهاد.
قال تعالى: “إن الله يأمر بالعدل والإحسان” (النحل: 90)، ولا عدالة ولا إحسان في تغييب صوت التوازن والتفكير المستقل. وقد لخص الإمام الحسين (عليه السلام) جوهر الإصلاح الديني بقوله:”ما خرجتُ أشِرًا ولا بطرًا، ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.” (تاريخ الطبري، ج4، ص304)، لأن الدين لا يكون حيًا ما لم يُترجم إلى موقف، وإلى مشروع بناء وتهذيب، لا إلى شعارات يُتاجَر بها.
نحو أفق جديد للفكر والدولة
إن ما نحتاجه اليوم ليس مجرد مواجهة التطرف أو سقوط المشاريع الدينية الفاشلة، بل صحوة عقلية وفكرية تُعيد ترتيب العلاقة بين الدين والدولة، بين القيم والمصالح، وبين الإيمان والمواطنة. الاعتدال ليس ضعفًا ولا مهادنة، بل ذروة الوعي؛ لأنه يُقاوم الظلم، ويرفض الغلو، ويُعيد الدين إلى موقعه الطبيعي في الضمير، لا في ممرات السلطة.
إعادة الاعتبار للفكر الديني المعتدل ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية، ومشروع وطني وثقافي وروحي في آن معًا.
مشروع يحفظ للدين نُبله، وللدولة توازنها، وللإنسان كرامته، ويكسر احتكار “الحديث باسم الله”، ويُعيد له مكانته كرحمة للعالمين.
وقد نبّه الإمام علي (عليه السلام) في واحدة من أعظم خطبه إلى خطورة الجهل المغلّف بلباس الدين، محذرًا من “أشباه العلماء” الذين يُضلون الناس، فقال: “قد عرفوا من الدين ما درّوا، وخلطوا من الحق بما به يُغرّوا، يحملون الناس على أكتاف الضلالة، ويوردونهم حياض الجهالة…” (نهج البلاغة، الخطبة 147).
وفي هذا السياق، يأتي الاعتدال كخيار إنقاذي لا يُهادن الجهل ولا يبرر الاستبداد، بل يواجهه بالعقل والعدل والاجتهاد.
قال الإمام علي (٤): “من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركهم في عقولهم.” (نهج البلاغة، الحكمة 165)
إن التغيير الحقيقي لا يحدث عندما يأتي الإصلاح فقط من القوى السياسية أو الأنظمة الحاكمة. الإصلاح يبدأ من داخل الإنسان نفسه، ويعتمد على نضج فكري وعقلي يعيد التفكير في القيم والمفاهيم التي يحملها الفرد، ويبحث عن الحق والعدالة بعيدًا عن التأثيرات السلطوية أو الضغوط الخارجية.
الاعتدال الديني ليس ترفًا… بل ضرورة وطنية ووجودية
في زمن تغوّلت فيه الأدلجة، واستخدم الدين كأداة في صراع النفوذ والهيمنة، أصبح من الضروري أن نعيد الاعتبار للفكر الديني المعتدل. إن الاعتدال الديني ليس ترفًا فكريًا أو اختيارًا نخبويًا، بل هو ضرورة وطنية ووجودية. في لبنان، الذي يعاني من التوترات الطائفية والانقسامات السياسية، يمثل الفكر المعتدل خيارًا لا غنى عنه لبناء جسور السلام والتعايش بين مختلف مكونات المجتمع.
إن الدين، في جوهره، رسالة نور ورحمة، لا مشروع سلطة وقمع. ويجب أن نميز بين جوهر الدين النبيل وبين توظيفه في أجندات سياسية ضيقة. فالفصل بين الدين كقيم إنسانية عالمية وبين استغلاله لأغراض دنيوية هو ما يعيد للإيمان معناه، وللدولة توازنها، وللإنسان كرامته.
وقد حذّر الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من هذا الانحراف المبكر في المفاهيم الدينية، حين قال: “واعلموا أن الذي أمر بالمعروف ونهى عن المنكر قد استبدل بغيره، وأصبح المعروف منكَرًا، والمنكر معروفًا، فأطيع على ذلك سفهاؤهم، وتكلم في الأمر جهَالهم.” (نهج البلاغة، الخطبة 34)
في هذا السياق، يبرز مشروع الاعتدال كفعل مقاومة حضارية ضد احتكار الدين من قبل جماعات أو أفراد يُنصّبون أنفسهه أوصياء على الناس باسم السماء.
وقد وصف الإمام علي (عليه السلام) هؤلاء بقوله: “جاهلٌ خبّاطُ جهالات، عاش ركّابُ عشوات، لم يعضّ على العلم بضرس قاطع، يذرو الرواياتِ ذروَ الريح الهشيم…” (نهج البلاغة، الخطبة 17)
بل وأكثر من ذلك، نجده يصفهم في خطبة أخرى قائلًا: “لهم حُلُومُ الأطفال، وعُقولُ رَبَّاتِ الحِجال… قد دخلوا في الشُّبهات، ووقعوا في الضلالات، وأصبح الناس في فتنةٍ من ذلك طويلةٍ بلاؤها، عظيمةٍ عَمياؤها، قد أخطأ فيها الصواب، وتكلم فيها الظنّ، وتساووا فيها على عَمىً، كما تساوت الإبل في الجيرة، لا يُستخرج منها القائد، ولا يُستدلّ منها الهادي.” (نهج البلاغة، الخطبة 27)
هذه الخطبة التي تجسد حالة الانهيار القيمي حين يغيب العقل ويعلو الجهل باسم الدين، وتصبح الفتنة مبررًا دائمًا للاستبداد.
خاتمة: هل نملك شجاعة الاعتدال؟
الاعتدال هنا لا يعني الوقوف في المنتصف بين تطرفين، بل يعني امتلاك الشجاعة للعودة إلى جوهر الدين: الرحمة، والعقل، والعدل. هو مقاومة فكرية وروحية ضد تسييس العقيدة وتجييرها لصالح قوى ترى في الناس أتباعًا لا شركاء في الوعي.
وفي هذا السياق، تصبح إعادة الاعتبار للفكر الديني المعتدل مشروعًا تحرريًا على كل المستويات:
1. تحررًا من الاستغلال السياسي للدين،
2. تحررًا من الخطاب الإقصائي المتشدد،
3. وتحررًا من الأنظمة التي تُقصي العقل وثُرهب الاجتهاد.
إن لبنان، كساحة مليئة بالتناقضات الطائفية، بحاجة إلى تيار فكري يقود هذا التحرر، ويستعيد مكانة الدين كعامل توحيد لا تفريق، وكرافعة أخلاقية وإنسانية، لا كأداة ترهيب وقمع.
مشروع الاعتدال هنا ليس دعوة تجميلية، بل ضرورة وجودية لإنقاذ الدين من خاطفيه، والمجتمع من انقسامه، والدولة من تآكل شرعيتها الأخلاقية.
فهل نملك شجاعة إعادة الدين إلى رسالته، والناس إلى عقولهم، والدولة إلى عدالتها؟