تركيا بين طهران وتل أبيب : توازن دقيق كاد أن ينهار في ظل حرب محتملة

د. كولشان يوسف صغلام – أكاديمية وباحثة

بعد وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل، بات من الضروري أن نطرح أسئلة افتراضية تحمل في طيّاتها تحليلاً عميقاً لما كان يمكن أن يحدث لو استمرت المواجهات أو تحولت إلى حرب شاملة بمشاركة أميركية مباشرة. ما السيناريوهات التي كانت لتتحقق؟ وهل كانت الحرب ستبقى محدودة على المنشآت النووية؟ أم كانت ستتوسع إلى نزاع عالمي شامل؟ وكيف كانت تركيا ستتصرّف، وهي جارة لإيران، وعضو في الناتو، وحليف استراتيجي للولايات المتحدة رغم العلاقات المعقدة؟ وهل كان بوسع أنقرة أن تحافظ على سياسة “الحياد النشط” في ظل تداخل المصالح وتنامي الاستقطاب الإقليمي؟

التصريحات المتكررة من واشنطن وتل أبيب بأن “كل الخيارات مطروحة” كانت تشير إلى أن خيار الحرب كان مطروحًا فعليًا على الطاولة. بعض التقييمات الاستراتيجية، خاصة من معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أشارت إلى أن إدارة ترامب أعادت تفعيل سيناريوهات عسكرية كانت مجمدة في عهد بايدن، بما في ذلك احتمال توجيه ضربة مشتركة للمفاعلات النووية الإيرانية في نطنز وفوردو وبوشهر.

لكن ماذا لو لم يتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار؟

هل كانت الولايات المتحدة ستمنح إسرائيل الضوء الأخضر للعمل بشكل منفرد، أم كانت ستتدخل مباشرة؟ وكيف كانت إيران سترد؟ هل كانت ستوسع نطاق الصراع إلى الخليج أو نحو الحدود الشرقية لتركيا؟ وهل كانت تركيا ستتمكن من التمسك بموقف “الحياد النشط” أم كانت ستُجبر على اتخاذ موقف واضح في نزاع يهدد أمنها القومي ووحدة أراضيها؟ وماذا عن الأبعاد الإثنية، كالكرد والأذريين، وما يمكن أن ينتج عن تصاعد الصراع من تفاعلات داخلية عابرة للحدود؟

لو استمرت الحرب، لكانت تركيا من أكثر الدول تضررًا، حتى وإن لم تكن طرفًا مباشرًا. فهي تشترك مع إيران بحدود طويلة تبلغ نحو 500 كيلومتر، وتضم مناطقها الشرقية جماعات كردية وأذرية ترتبط بعلاقات إثنية وثقافية مع نظرائها في الداخل الإيراني. كما أن تركيا تعتمد بشكل كبير على الغاز الإيراني، ولديها تنسيق أمني محدود ولكنه مهم مع طهران، لا سيما في ملف مكافحة حزب العمال الكردستاني.

وكان من المرجح أن يكون من أولى نتائج الحرب المحتملة: موجة نزوح ضخمة من إيران

تقديرات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أشارت إلى أن أي زعزعة كبيرة للاستقرار في إيران يمكن أن تؤدي إلى تدفق ما بين مليون إلى ثلاثة ملايين لاجئ إلى الدول المجاورة، في مقدمتها العراق و تركيا. وكان يمكن أن تشمل هذه الموجات لاجئين من قوميات مختلفة كالكرد والبلوش والأذريين، ما قد يثير نقاشات حساسة تتعلق بالتماسك الوطني داخل تركيا، خاصة في شرق البلاد، ويزيد من الأعباء الاقتصادية والأمنية على الحكومة التركية.

المخاطر البيئية والصحية كانت ستُشكّل بعداً آخر مقلقاً

لو استُخدمت أسلحة نووية تكتيكية، أو استُهدفت منشآت نووية تحتوي على مواد مشعة، لكان ذلك قد أدى إلى تلوث إشعاعي واسع النطاق. وفقًا لتقارير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، فإن تسرباً إشعاعياً كان يمكن أن يصيب محافظات تركية حدودية مثل أغري وهكاري وفان، ما كان سيتسبب بكوارث زراعية وصحية وسياحية طويلة الأمد، ويشكل عبئًا على البنية التحتية للدولة ويهدد الأمن الغذائي.

جيوسياسياً، كانت تركيا ستجد نفسها في موقع بالغ الحساسية

رغم التنافس مع إيران في سوريا والعراق واليمن، فإن أنقرة وطهران تتعاونان في مجالات الطاقة والتجارة والأمن. انهيار إيران أو تفككها لم يكن ليتوافق مع المصالح التركية، لما يمكن أن يخلقه من فراغ استراتيجي يُغذي النزعات الانفصالية داخل تركيا نفسها، خصوصاً بين الأكراد والأذريين. في الوقت ذاته، فإن تركيا لا تتبنى الرؤية الاستراتيجية لتل أبيب، خاصة في ظل التوترات المتكررة بشأن القضية الفلسطينية، رغم التطبيع الشكلي.

لذا، من المرجح أن أنقرة كانت ستسعى إلى اتباع سياسة “الحياد النشط”، أي عدم المشاركة العسكرية، ولكن في الوقت نفسه عدم التزام الصمت. كانت ستُدين الضربات الإسرائيلية، خاصة إذا طالت المدنيين، وتسعى إلى الوساطة واحتواء التصعيد. القنوات المفتوحة مع واشنطن وتل أبيب، والعلاقة الشخصية بين أردوغان وترامب، كانت لتمنح أنقرة هامشًا دبلوماسيًا مهمًا. وسبق أن أكدت مصادر دبلوماسية تركية رفض أنقرة لأي عمل عسكري ضد إيران، ودعت إلى الحلول السياسية حفاظاً على استقرار المنطقة ومصالح تركيا.

أما جنوب القوقاز، فكان سيشكّل جبهة اشتعال إضافية

التقارب التركي الأذري كان مرشحًا للتعمق في حال انشغال إيران بصراع مفتوح، ما كان يمكن أن يصعّد التوتر مع أرمينيا، المدعومة من طهران وموسكو. ورغم زيارات التقارب الرمزية كزيارة رئيس الوزراء الأرمني باشينيان إلى أنقرة في حزيران 2025، فإن أي تصعيد إيراني كان يمكن أن يُقوّض جهود المصالحة الهشة. وإذا لجأت إيران إلى تحريك وكلائها لزعزعة الاستقرار في القوقاز أو شمال العراق، لربما اضطرت تركيا إلى الرد، بشكل مباشر أو غير مباشر.

اقتصاديًا، كانت الحرب لتشكّل ضربة قاسية للاقتصاد التركي

فقد كانت لتُعطل واردات الغاز الإيراني، وتفاقم أزمة الطاقة في ظل التضخم الداخلي. كما أن طرق التجارة والسكك الحديدية التي تربط تركيا بالشرق كانت ستتضرر، ما يُهدد طموح أنقرة بأن تصبح مركزًا لوجستيًا إقليميًا. كما كان من المرجح أن تتراجع الاستثمارات الأجنبية ويُصاب قطاع السياحة بانتكاسة.

لكن رغم كل هذه التحديات، فإن لتركيا موقعًا استراتيجيًا فريدًا

علاقاتها مع طهران وواشنطن، وقدرتها على التواصل مع الطرفين، تجعلها مرشحة للعب دور حاسم في احتواء الأزمات، شريطة أن تحافظ على براغماتيتها وتوازنها الاستراتيجي. فمصلحة تركيا ليست في اصطفاف أعمى مع إيران، بل في حماية أمنها القومي واستقرارها الداخلي. انهيار إيران لن يخلق فقط فراغًا أمنيًا، بل سيجلب معه جهات فاعلة مزعزعة للاستقرار ذات أجندات مناقضة لمصالح أنقرة.

ختاماً، لو اندلعت الحرب، لما بقيت حبيسة الأراضي الإيرانية. كانت ستطال تركيا بتداعياتها الأمنية والإنسانية والاقتصادية. ومن هنا، فإن على أنقرة أن تستعد دومًا لسيناريوهات متعددة، من خلال تعزيز سياسات حماية الحدود، وتطوير التنسيق الاستخباراتي والعسكري، وبناء استراتيجية دبلوماسية مرنة. فتركيا ليست مجرد دولة مجاورة، بل لاعب إقليمي رئيسي. وإذا ما أدارت تحالفاتها بحكمة، كان بإمكانها أن تتحول من مراقب سلبي إلى فاعل أساسي في تخفيف حدة الأزمة..

اخترنا لك