“حزب الله” يستحضر الإرهاب والنازحين إلى الحدود الشرقية

شيعة سوريا نازحون "نخبويون"

بقلم مريم مجدولين اللحام و عيسى يحيى

في السهول الخصبة بين نهر العاصي ومستشفى الهرمل الحكومي وعلى بُعد كلم واحد من موقع وطى القاموع الأثري، يرتفع مشهد لا يشبه شيئًا من بؤس المخيمات السورية في لبنان: أرضٌ مسيجة مُقفلة بسور حجري عالٍ، داخلها بيوت جاهزة مسبقة الصنع، بإمدادات بنى تحتية كاملة من الكهرباء إلى الماء والصرف الصحي، تؤوي حصراً عائلات سورية من الطائفة الشيعية موالين سياسياً لإيران، جرى نقلهم بعد سقوط نظام الأسد من مناطق القصير وريف حمص الغربي التي كانت خاضعة لسيطرة “حزب الله” خلال الحرب السورية.

هذا “المخيم المختلف النخبوي” خارج رادار الدولة، وخارج الرادار الدولي إذ لا يظهر على لوائح مفوضية اللاجئين، ولا ترفرف فوقه راية أي منظمة إنسانية، لكنه يحظى بالخدمات والبنى التحتية الكاملة تحت إشراف أمني لـ “حزب الله”.

النازح الحليف

ليس كل نازح سوري في لبنان يشكل تهديدًا. لكن في المخيم موضوع النقاش، لا يمكن فصل الهوية الديموغرافية عن التبعية السياسية. هؤلاء نازحون تم اختيارهم بناءً على مشاركتهم أو انخراط أحد أفراد الأسرة في المعارك إلى جانب “حزب الله”، أو انتمائهم إلى قرى شيعية محاذية كانت من أوائل الداعمين للتدخل الإيراني في سوريا. بمعنى آخر، المخيم هنا لا يضم لاجئين عاديين، بل “احتياط تعبوي” قابل للتفعيل عند الحاجة.

اختيار العائلات التي تقطن المخيم لم يكن عشوائيًا. بعبارة أخرى: اللاجئ هنا ليس ضحية حرب، بل حليف استراتيجي يحظى بامتيازات معيشية. أما بناء المخيم المحميّ فتم بصمت، فلا البلدية التي من المفترض أنها تمثل “عين الدولة اللبنانية” اعترضت، ولا الأجهزة الأمنية ساءلت، ولا المنظمات الأممية تجرأت على الاقتراب من هذا الملف، خوفًا من الاصطدام بـ “حزب الله”.

يقدّم هذا المخيم نموذجًا لما يمكن تسميته بـ “الاستيطان الطائفي المنظم”، وهو يختلف تمامًا عن بقية المخيمات السورية التي تتوزع في البقاع الأوسط وعكار وغيره. هناك، تعيش العائلات تحت رحمة الحرمان والمساعدات الإنسانية التي توفرها مفوضية الأمم المتحدة، أما هنا فالمشهد مختلف: خدمات لوجيستية كاملة، انفصال تام عن المحيط، وحماية أمنية دقيقة لـ “حزب الله”، وانتقاء واضح للهوية المذهبية.

صناعة التبعية

في الفكر السياسي الألماني، يُعرّف الفيلسوف كارل شميت السيادة بأنها القدرة على اتخاذ القرار في الحالة الاستثنائية. لكن ماذا لو أصبحت الحالة الاستثنائية دائمة؟ هذا ما نراه في “مخيم الخمس نجوم”: حزام من “الاستثناء المؤسّس”، لا يخضع لقانون، ولا يشمله استثناء موَقت. بل إنه، في جوهره، شكل دائم من الاستثناء، تنتج عنه سلطة بديلة لا تُحاسَب.

إن هذا النموذج من التمركز الأمني-الاجتماعي لفئة لاجئة، محاطة بحاضنة سياسية، لا يذكّر فقط بنظريات شميت، بل أيضاً بتشخيصات ميشال فوكو للدولة البيروقراطية التي تُحوّل الأجساد إلى وحدات خاضعة للتنظيم والإنتاج – لكن في الحالة “الهرملية لمخيم لا تراه عين المؤسسات”، هذا التنظيم لا ينتج لاجئاً في دولة تحترم المقيمين والنازحين إليها، بل يصنع “تابعًا”، لن يعود إلى بلده التي لا حرب فيها بل حساب يخافه إن رحل، ولا يندمج في البلد المضيف، بل يُخزّن في موقع معلق بين الجغرافيا والمعتقد، بين “حزب الله” وطهران.

والأسوأ، هو خوف المجتمع المحلي في الهرمل من مسألة “تصوير المخيم والحديث عنه إعلامياً”، إذ كل ما لا يُوثق يُنسى، وكل ما لا يُصور يُنكر. وهو ما يجعل المخيم اليوم خارج التاريخ، حتى وإن شكّل عنصرًا أساسيًا في تحديد مستقبل لبنان الديموغرافي–الأمني.

لكن الأخطر: هو ما تمثله حماية “حزب الله” للمخيم من إشارة أمنية سلبية. فحين يكون النازح على علاقة عضوية بحزب لبناني مصنّف كقوة مسلحة خارج سلطة الدولة، ويحظى بامتيازات لا يحظى بها المواطن نفسه، فهذا يُقوّض نهائيًا إمكانية عودته إلى بلاده، ويضرب جوهر سياسة “تخفيف عبء النزوح” التي يفترض أن تعمل عليها الحكومة اللبنانية.

فهل الدولة اللبنانية تريد إعادة هؤلاء؟ أم أنها صارت رهينة من يملك مفاتيح المخيم؟

وهل حكومة أحمد الشرع السورية – في حال نجحت بالتعاون مع العهد الجديد في لبنان تنظيم مسألة العودة – تستطيع استعادة هذه الفئة التي اندمجت أمنيًا واقتصاديًا مع “حزب الله”؟

“اللبناني أحق”!

وفيما تُرك أبناء بعلبك بلا إعادة إعمار بعد تضررهم من الحرب، بُني هذا الحزام المنظم للنازحين السوريين الشيعة، ولا يمكن فهم وظيفة هذا المخيم دون وضعه في السياق الحدودي الأشمل، فعلى الضفة الأخرى من الحدود، في ريف القصير المقابل، يوجد مقاتلون شيشانيون، من الأكثر تطرفاً وتنظيماً يشرفون على خط التماس ويمسكون مسؤولية “ضبط” المعابر.

والنتيجة المتوقعة؟ حدود لا تفصل بين دولتين، بل عقيدتين، “حزب الله” والمجاهدون. إنها قنبلة موقوتة، والهرمل – بجغرافيتها وسكانها وحدودها – قد تكون الفتيل الأقرب إلى الانفجار. باختصار، تقع الهرمل اليوم على فوهة بركان. من جهة، تخوض إسرائيل مواجهة مفتوحة مع “حزب الله” جنوبًا، وهدّدت أكثر من مرة بنقل المعركة إلى البقاع إذا لزم الأمر. من جهة أخرى، تعمل إيران على ترسيخ نفوذها الحدودي كحزام ردع استراتيجي.

وهم الإرهاب… في مكان آخر!

لكن هذا المخيم ليس معزولًا عن منطقٍ أوسع، إذ يشكّل امتدادًا لسياسة تُعيد إنتاج الخوف وتُشرعن الاستثناء باسم الحماية… يُستحضر الخوف من الخطر القادم من الشرق، ويتكرر الحديث عن خلايا نائمة وشبكات إرهابية، ومقاتلين أجانب على الحدود اللبنانية السورية، كلما دعت الحاجة إلى استدعاء عدوٍ وهمي، لا لشيء بل لتأجيل الأسئلة الكبرى التي تدور في أذهان الناس، ولإعادة ترتيب الأولويات من جديد: الأمن قبل الإنماء، والسلاح قبل الدولة.

يعاد ضخ الخوف بشكل متصاعد، مصحوباً بسردية إعلامية وسياسية، عن الخطر المحدق بلبنان من بوابة الحدود الشرقية بين لبنان وسوريا، حيث الجغرافيا الملتهبة، وبرواية خطيرة ومكررة: حشود سورية على الحدود، مقاتلون شيشان وإيغور، وتهديد إرهابي يتنامى عند خاصرة البقاع. حملة لم يصدر أي تحذير رسمي فعلي منها، أو حتى تدابير استثنائية، أو تقارير استخباراتية ومؤشرات تثبت وجود تهديد جدي، وكأن الهدف هو زرع الخوف وتضليل الرأي العام، والتذكير بأن الخطر باقٍ والحماية واجبة.

حين يخترع العاجزون الأعداء

هو نمط من الخطاب ليس بجديد، بل هو امتداد لسلوك الجماعات العقائدية التي تقوم سرديتها الوجودية على اختراع “عدو دائم” والإمساك بالمجتمع والبيئة تحت ذريعة “الخطر الوجودي”، وفق ما تقول مصادر متابعة لـ “نداء الوطن”، وتضيف أن هذا السلوك هو استنساخ لمشهد سابق عايشناه مراراً، تماماً كما فعل النظام السوري لسنوات، حيث حوّل الثورة إلى مؤامرة كونية عليه، متجاهلاً مطالب الشعب السوري المحقة، وما يفعله شركاؤه في لبنان اليوم، يصورون كل اعتراض على أنه تهديد أمني، وكل خصم على أنه إرهابي.

وتشير المصادر إلى أن تراجع رصيد “الحزب”، والتململ الذي بدأ يظهر، يدفع إلى إظهار عدوٍ جديد يعيد ترتيب الصفوف، ويبرر بقاء “الحامي”، وكل أشكال السيطرة والتفرد، وهو المنطق الذي يستثمر لتجميد النقاش الداخلي حول استمرار السلاح، وتحويل الحدود جبهات دائمة الاشتعال. وأكدت المصادر أن المناطق الحدودية المستهدفة بهذا الخطاب هي نفسها التي تم إخضاعها سابقاً بالقوة الإعلامية ثم بالقوة العسكرية، مثل عرسال والقاع ورأس بعلبك، بلدات دفعت أثماناً باهظة بسبب خطاب التخويف والتحريض.

احتياطي الذعر

وحول حقيقة وجود مقاتلين أجانب على الحدود اللبنانية السورية الشرقية، تؤكد مصادر أمنية سورية لـ “نداء الوطن” أن ذلك كله محض تهيؤات، والعناصر المنتشرة على طول الحدود اللبنانية السورية هي من وزارة الدفاع والداخلية، مشيرةً إلى أنه ومع سقوط النظام السوري في أيامه الأولى على يد فصائل الثورة حينها، انتشر عدد من المقاتلين الأجانب والذين يشاركون الثوار منذ اليوم الأول لثورة العام 2011 على الحدود اللبنانية السورية، ولكن ذلك كان موَقتاً ولم يستمر لأيام، قبل أن تعيد الدولة السورية الجديدة تنظيم نفسها وتنشر جيشها، لافتةً إلى أن ما يسمى بداعش لم يسجل لها أي عملية على الأراضي اللبنانية منذ مغادرتها الجرود عام 2017 إثر اتفاق مع “حزب الله”، وبالتالي هناك من يريد لهذا الشبح أن يبقى حيّاً في الذاكرة الجماعية لأسباب معلومة.

على خط “حزب الله”، وبالتزامن مع إحياء المجالس العاشورائية، طفا على السطح إحباط محاولات تفجير، وتفكيك خلايا إرهابية، سرعان ما انتشر الخبر بصيغ غامضة، لتعود الأجهزة الأمنية وتضع نقاط التوقيف على حروف الحقيقة، ويقول القضاء كلمته بتحقيق شفاف بعيدٍ عن أي حسابات. ولأن تعويم الهلع يفرض صناعة الرواية، تتخذ الإجراءات الأمنية الاستثنائية في المناطق الحساسة.

أزمة خطاب لا أزمة أمن

والمشكلة في مجمل الأحداث والمعطيات التي تنشر لا تكمن في محتوى الخبر، بل في السياق الذي تضخ فيه: توقيت سياسي ضاغط، ومأزق داخلي يعيشه المحور، والحاجة إلى حشد الجمهور خلف راية الخطر الداهم، ليجعل من القرى الحدودية ساحة توتر دائم لن ينتج أمناً، بل المزيد من التعقيد. ولأن لبنان لم يعد يحتمل مزيداً من الأعداء المصطنعين، فليتوقفوا عن صنع الأشباح، فالأرض تعرف أبناءها والناس سئموا الخوف المعلّب.

ما بين “مخيم الهرمل النخبوي” وسرديات العدو الوهمي، يتضح أن الخطر الحقيقي لا يكمن عند الحدود بل في ما يُبنى خلفها: دولة تلفظ سيادتها الأخيرة.

اخترنا لك