خمسة أعوام على جريمة العصر…

تفجير مرفأ بيروت بين إفلات المجرمين وعجز العدالة الوطنية

كتب د. عبد العزيز طارقجي – باحث في الانتهاكات الدولية لحقوق الإنسان

بوابة بيروت تنشر مشروع ذاكرة، رغم مرور خمس سنوات على جريمة تفجير مرفأ بيروت في ٤ آب ٢٠٢٠

في الرابع من آب من كل عام، تعود إلى الذاكرة واحدة من أفظع الكوارث التي شهدها العصر الحديث “تفجير مرفأ بيروت عام 2020″، والذي أودى بحياة أكثر من 220 شخصًا، وأصاب ما يزيد عن 6500، ودمّر نصف العاصمة اللبنانية. كارثة لم تكن بفعل الطبيعة أو القدر، بل نتيجة مباشرة لإهمال جنائي ممنهج وتواطؤ سياسي وأمني، يتصدرهم حزب الله وشركاؤه في الحكم، والذين لا يزالون يتمتعون بحصانة الأمر الواقع، وسط شلل تام للقضاء اللبناني وتقاعس دولي وعربي مريب.

أركان الجريمة ومساءلة المسؤولين

تؤكد الوثائق الرسمية وتقارير التحقيق أن 2750 طنًا من نيترات الأمونيوم كانت مخزنة في المرفأ منذ عام 2013 دون أي إجراءات وقائية، رغم علم رؤساء الأجهزة الأمنية، والسلطات القضائية، والسياسيين البارزين بوجودها وخطورتها. وهذا ما يحقق أركان جريمة “القتل غير العمد الناتج عن الإهمال الجسيم” المنصوص عليها في المادة 190 من قانون العقوبات اللبناني، وجريمة “تعريض أمن الدولة وسلامة أراضيها للخطر” المنصوص عليها في المواد 270 وما يليها من نفس القانون.

كما ينطبق على هذه الجريمة وصف “الجريمة ضد الإنسانية” وفقًا للمادة السابعة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، لما انطوت عليه من أفعال قتل وتدمير وتهجير وقعت في سياق هجوم واسع النطاق ضد السكان المدنيين، وبعلم تام من الجهات الرسمية.

حزب الله… اللاعب الظل الذي يدير المشهد

لا يمكن لأي تحليل موضوعي أن يتجاهل مسؤولية حزب الله، الذي حول المرفأ إلى مركز نفوذ عسكري وأمني، وجعل منه منطقة خارجة عن سلطة الدولة. وتشير العديد من التقارير، أبرزها ما ورد في تحقيقات إعلامية دولية مثل “الجارديان” وغيرها، إلى ضلوع الحزب في تأمين الغطاء للمخزون القاتل، بل وربما استخدامه لأغراض عسكرية.

ويُعد هذا التورط من قبل جهة غير حكومية بمثابة انتهاك صريح لمبدأ حصرية السلاح بيد الدولة، ويمثل مخالفة للمادتين 51 و52 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تؤكد على سيادة الدول ومنع التدخل المسلح فيها.

القضاء اللبناني… رهينة السطوة السياسية

رغم المحاولات التي قادها المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، إلا أن التدخلات السياسية، وعرقلة مجلس النواب والنيابة العامة التمييزية، عطلت سير العدالة، في انتهاك صارخ لمبدأ استقلال القضاء المنصوص عليه في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 14).

لم يُستدعِ أي مسؤول رفيع للمساءلة الجدية، وبدلاً من ذلك، شهدنا حملات ممنهجة لتخويف القضاة، ورفضاً علنياً للمثول أمام التحقيق من قبل شخصيات مثل علي حسن خليل وغازي زعيتر ونهاد المشنوق، وهم جميعًا حلفاء مباشرون لحزب الله.

مسؤولية المجتمع الدولي وجامعة الدول العربية

إزاء عجز الدولة اللبنانية عن توفير العدالة، يقع على المجتمع الدولي مسؤولية قانونية وأخلاقية للتحرك، لا سيما أن لبنان طرف في عدة اتفاقيات حقوقية، تمنح الدول الأخرى ولاية للتحقيق في الجرائم الدولية بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية.

ولعل أهم خطوة منتظرة اليوم هي إنشاء بعثة تقصي حقائق دولية مستقلة بقرار من مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وهو ما دعت إليه بالفعل منظمات حقوقية كبرى مثل “العفو الدولية” و”هيومن رايتس ووتش”.

أما جامعة الدول العربية، فعليها التحرك من منطلق ميثاقها، خاصة في ما يتعلق بـ البند الثامن، الذي يجيز اتخاذ إجراءات جماعية لحماية أمن الدول الأعضاء وسلامة شعوبها، حين تفشل الحكومات المحلية في ذلك. صمت الجامعة عن جريمة بهذا الحجم، رغم وضوح التورط السياسي، يمثل تواطؤًا غير مباشر مع الإفلات من العقاب.

في الذكرى الرابعة… نداء للعدالة

بعد خمسة أعوام، لا يزال أهالي الضحايا ينتظرون الحقيقة والعدالة. لا تزال بيروت تنزف من جراحها. ولا تزال قوى الإفلات من العقاب تحكم بقبضة من نار وحديد. العدالة لن تتحقق إلا بكسر الحصانات، وفضح المجرمين، والضغط الدولي والعربي لمحاكمتهم.

إن تفجير مرفأ بيروت ليس مجرد حادث عرضي، بل هو جريمة متكاملة الأركان، تُرتكب يوميًا بصمت العالم وتواطؤ القريب. فهل يملك المجتمع الدولي والضمير العربي الجرأة لقول كلمته، أم سنترك الضحايا وحدهم مرة أخرى؟

إن ما يفاقم فظاعة جريمة مرفأ بيروت ليس فقط حجم الكارثة، بل هذا الانحدار المروّع في معايير المحاسبة والمسؤولية. ففي دولٍ تحترم شعوبها، تسقط حكومات وتُحلّ برلمانات وتُفتح محاكمات علنية لأسباب أقل بكثير من تفجير أودى بحياة المئات ودمّر قلب العاصمة. لكن في لبنان، لم يسقط مسؤول واحد، بل على العكس، كوفئ بعض المتورطين بترقيات سياسية أو أمنية، فيما اشتدّت قبضة الأجهزة الأمنية على رقاب المواطنين، واستُخدمت السلطة القضائية كأداة لتكميم أفواه المعارضين والصحفيين والأهالي المطالبين بالعدالة.

إن هذا المشهد السريالي، حيث تُقمع الحقيقة ويُكافأ المجرمون، هو أكبر دليل على عمق الانهيار الأخلاقي والمؤسساتي الذي يعيشه لبنان، وهو ما يُحتّم على المجتمع الدولي والعربي التحرّك الفوري لإنقاذ ما تبقّى من كرامة العدالة، ورفع الحصانة عن قتلة بيروت.

اخترنا لك