تفجير مرفأ بيروت : جرح مفتوح في قلب الوطن لم يندمل

كتب د. فؤاد سلامة

بوابة بيروت تنشر مشروع ذاكرة، رغم مرور خمس سنوات على جريمة تفجير مرفأ بيروت في ٤ آب ٢٠٢٠

في مساء الثلاثاء، الرابع من آب 2020، ومع حلول الساعة السادسة وثمان دقائق مساءً بالتوقيت المحلي، دوّى انفجار هائل في مرفأ بيروت، مزلزلاً العاصمة اللبنانية بكاملها، ومشعلاً سحابة دخانية عملاقة على شكل فطر نووي، سُمع دويّها وشُوهد وهجها في مناطق تبعد عشرات الكيلومترات عن مركز الانفجار. في لحظة خاطفة، تحولت المدينة إلى ساحة حرب، وشعر الناس بوقع الانفجار حتى في جزيرة قبرص، على بعد أكثر من 240 كيلومتراً، وكان يعادل في شدّته زلزالًا بقوة 3.3 درجات على مقياس ريختر.

انطلقت شرارة الانفجار من العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، حيث كانت مخزّنة منذ عام 2013 شحنة ضخمة من نترات الأمونيوم، تقدر بـ2750 طناً، دون أي إجراءات أمان تُذكر، وسط تجاهل تام للتحذيرات والمراسلات الأمنية المتكررة التي كانت تُرسل من موظفين في الجمارك والأجهزة الأمنية إلى السلطات المختصة.

هذه المادة الكيميائية، التي كانت مخصصة في الأصل لصناعة الأسمدة أو المتفجرات المدنية، وصلت إلى لبنان على متن سفينة شحن كانت في طريقها من جورجيا إلى موزمبيق، قبل أن تُحتجز لخلل قانوني وتُفرغ حمولتها في أحد أكثر المرافئ حيوية في شرق المتوسط.

بلغت الخسائر البشرية مستويات صادمة: أكثر من 220 قتيلاً، بينهم رجال إطفاء، ممرضون، أمهات، أطفال وسكان عاديون، وأكثر من 7000 جريح، بعضهم ما زال يعاني من إعاقات دائمة. كما شُرّد ما لا يقل عن 300 ألف شخص من بيوتهم التي تهدّمت أو تضررت، وتحولت أحياء بأكملها كالجميزة ومار مخايل والكرنتينا إلى أطلال.

اقتصادياً، قدّرت الخسائر بما يفوق ال 10 مليار دولار، وشملت قطاعات السكن، الصحة، التعليم، والبنية التحتية. حتى الإرث الثقافي لم يسلم، إذ تهدمت واجهات مبانٍ تاريخية، ودُمرت معارض فنية، ومكتبات عمرها أكثر من قرن.

«ظننت أن نهاية العالم قد حلّت»

رنا، شابة في السابعة والعشرين من عمرها، كانت في شقتها بحي الجميزة حين حطّم الانفجار المزدوج النوافذ واهتزّت الجدران. تقول: «كانت الساعة 18:08. ما زلت أذكر الصمت الذي تلا الانفجار مباشرة… ثم الصرخات. فقدت الإحساس بالمكان. رأيت دماً على ذراعي، على جيراني، وعلى الجدران. لم يبقَ من المبنى سوى هيكل فارغ ممزق.»

رغم فداحة الكارثة، اصطدمت التحقيقات منذ بدايتها بجدار سميك من التدخلات السياسية والطائفية. فُرضت عراقيل على القضاء، وتوالى القضاة المكلفون دون أن يُنجز أي منهم مهمته كاملة. تعرض القاضيان فادي صوان وطارق البيطار لضغوط وتهديدات مباشرة، وعلّقت التحقيقات مراراً، بينما بقي المسؤولون الكبار خارج دائرة المساءلة.

أهالي الضحايا، وهم شهود الجرح النازف، لم ييأسوا، وظلوا يطالبون بالحقيقة. كل عام، في الرابع من آب، يحتشدون في ساحة الشهداء، حاملين صور أبنائهم ورايات تطالب بالعدالة، في مشهد يعكس الألم العميق وغياب الأمل الحقيقي في المحاسبة.

جاء الانفجار ليعمّق جراح لبنان الذي كان يرزح تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة، وانهيار غير مسبوق في قيمة العملة المحلية، وارتفاع معدلات البطالة والفقر، إضافة إلى تداعيات جائحة كورونا. المساعدات الإنسانية تدفقت سريعاً من دول ومنظمات، ولكن دون آليات فعّالة للإشراف على توزيعها، ما زاد من شكوك اللبنانيين تجاه سلطتهم.

أُطلق لاحقاً “إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار” من قبل البنك الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، واضعاً شروطاً صارمة تتعلق بالشفافية والمحاسبة كشرط للمضي قدماً. لكن الأزمات السياسية المتلاحقة وتعطّل المؤسسات الدستورية، من غياب حكومة فاعلة إلى شلل القضاء، حالت دون تنفيذ إصلاح حقيقي.

أكثر من مجرد كارثة عرضية، شكّل انفجار مرفأ بيروت لحظة مفصلية في تاريخ لبنان الحديث. لقد أظهر هشاشة البنية الإدارية للدولة، وعجز نظامها الطائفي عن حماية مواطنيه. وللكثير من اللبنانيين، بات هذا الانفجار رمزاً نهائياً لفشل الدولة، وصفارة إنذار تلتها انهيارات متتالية في لبنان بسبب عدم حصول الإصلاحات الأساسية في البنية السياسية. وما الحرب الإسرائيلية اللبنانية الأخيرة والمستمرة فصولاً إلا نتيجة متوقعة لغياب الدولة وتفكك مؤسساتها.

حتى اليوم، لا تزال آثار الانفجار ماثلة: في الأبنية المتصدعة، في الصوامع المحروقة التي بقيت شاهدة على ما جرى، وفي عيون الناجين الذين يحملون وجعًا لا يمحوه الزمن. وبينما تتآكل الثقة وتترسخ الهجرة كخيار، يبقى جرح المرفأ شاهداً صارخاً على معاناة شعب، ما زال، بعد كل ما خسر، متمسكاً بالأمل في العدالة والحقيقة.

اخترنا لك