بقلم عماد موسى
غاب قبل أن يغيب. مات قبل أن يموت. مات مع جوزف صقر مطلع العام 1997، ومات يوم توقف عن الكتابة، ومات عندما صمت البيانو. ومات عندما أقفل على صندوق الموسيقى الكائن في مكان ما من عقله. مات في الحروب مات في الضحكات المتناثرة، مات في الخيبات مات يوم سافر عقله إلى خارج المكان وهو ثابت في وحدته. ظلّ الرحباني العبقري يموت بشكل متقطع مع مشاكل صحية ونفسية متفاقمة حتى قرر قبل انقضاء شهر الحزن أن كل شيء انتهى مضيفاً إلى التراجيديا الرحبانية فصلاً أراحه أخيراً وآلم كل من عرفه من قرب أو من بعد، أو من مسافة وسطى.
ذات يوم، حللتُ ضيفاً في لقاء “إذاعي” على أثير “صوت الشعب” أداره رضوان حمزة وشارك فيه وجدي شيّا. رحل الثلاثة وبقي شيء من الصدى الجميل وصورة جامعة في الاستديو، ما أذكره عن ذاك اللقاء الممتد لساعات، أنني تعرضت لهجوم مستمعي الإذاعة، المنتمين إلى البيئة الحاضنة لليسار، على خلفية آرائي السياسية المناقضة لتوجهات “الرفيق” زياد. وعندما شعر زياد أن الأمر زاد عن حده قال بما معناه “الأخ عماد لا يمثل الإمبريالية الأميركية”!
لم يكن التواصل مع زياد سهلًا ومتيسرًا. أحيانًا تجده في قلب المشهد الإعلامي لأسابيع، لينقطع بعد ذلك عن الإعلام ويصير التواصل معه من رابع المستحيلات. صداقته مشوبة بمحاذير. لا تعرف كيف تكسب صداقته وكيف يناصب الجميع العداء، لسبب أو لغير سبب. طبعه كان عدائيًا. مزاجيته فاقعة. سخريته مرة لذيذة ومرة جارحة. ييبح لنفسه ما لا يُباح.
حظّي أنني عرفته في محطات قليلة. انتقدت بقساوة مسرحيتَيه الأخيرتين اللتين ضمّنهما مواقفه السياسية الغريبة “بخصوص الكرامة والشعب العنيد” و”لولا فسحة الأمل” وكتبت عن موسيقاه كل موسيقاه، وعن أغنياته لفيروز وجوزف صقر ولطيفة وسلمى مصفي… لم يعلق يومًا على الإيجابيات بل احتدّ ورفض أن تمر أعماله تحت سلطة النقد، بمعزل عن حجم من ينتقد.
في عزّ الانقسام المناطقي والسياسي، كنت زياديًا محتفيًا بكل إنتاجه الموسيقي، معجبًا بمعظم تعليقاته السياسية و”مقارباته” وإن خالفت ما آمنت به واعتنقته، حافظاً إنتاجه المسرحي قبل آخر سقطتين، وكم تمتعت بإعداد حلقة تلفزيونية عن مسرحية “فيلم أميركي طويل” لحساب إحدى الفضائيات العربية، وتوافقت مع منتجة العمل الّا نتواصل مع صاحب العمل، أي زياد، كي لا يعرقل المشروع لسبب أو لآخر.
هل صحيح أن زياد مات؟ أو “فَتَح عتمة خيالو وفات” كما يقول طلال حيدر؟