السيطرة الاميركية وتحديات المرحلة الانتقالية والمصائر المجهولة

بقلم زكي طه

قضايا الأوطان والمجتمعات والشعوب، هي قضايا خلافية سجالية، تعكس تباين مصالح مكوناتها. وتاريخها هو مسارات الخلافات بينها انطلاقاً من مواقعها المتباينة والمختلفة التي تحدد مصالحها. وهو أيضاً تاريخ التسويات التي توافقت عليها، ما رسخ منها أو كان عرضة للانقلاب عليها والارتداد عنها.

علماً أن التسويات القابلة للحياة نتاج مجتمعات وشعوب تلك البلدان التي تتأتى وسط الخلافات، وليس عبر استنزال نعمة من السماء يأتي بها موفدي الخارج، ويوافق عليها اطراف وفرقاء الداخل وتحل كل المشاكل. وهؤلاء لا يحضرون إلا وفي ركابهم السياسات التي تخدم مصالح بلدانهم، سعياً منهم لتحقيقها بشتى السبل والوسائل. وهي التي تحدد طبيعة أدوارهم وأدائهم وليس حقوق أو مصائر تلك الشعوب. هكذا كان الامر على مر التاريخ ولم يزل في شتى بلدان العالم التي أصابها التطور والتقدم، أو التي لا تزال تعصف بها الخلافات والنزاعات والحروب.

وفي هذا السياق يمكن قراءة قضايا المنطقة العربية، كيانات ومجتمعات وشعوب، وطبيعة الخلافات الموروثة والمستجدة التي لم تزل تأسر أوضاعها الداخلية، بالترابط مع مفاعيل ونتائج الحروب التدميرية المفتوحة التي شكلت ساحاتها لها، منذ أن تشكلت كيانات وطنية ومجتمعات وشعوب، بكل ما يحتشد فيها من أدوار وتدخلات إقليمية ودولية، وآخرها الحرب الاسرائيلية التي لم تزل تتوالى فصولاً كارثية على كل المستويات.

والمحصلة الاجمالية هي دخول المنطقة باسرها عصر السيطرة الاميركية، بعد عقود من التدخل الاميركي المباشر والمتواصل في أزماتها. المتعلق منها بنزاعاتها الداخلية حول القضايا المتفجرة، أو المتصل بالصراع العربي ـ الاسرائيلي والقضية الفلسطينية، من موقع الدعم الكامل لاسرائيل باعتبارها أداة سيطرة وهيمنة، كما الموصول بالنزاعات الاقليمية المتأتية من طموحات وتدخل ايران وتركيا في الشؤون والصراعات الأهلية القائمة في بلدان المنطقة.

من المؤكد أن المصالح الاميركية في المنطقة، كانت وستبقى الناظم السياسي والميداني لتدخلها المتعدد الأوجه والادوار في إطار استراتيجية تعميم الفوضى الخلاقة. وفي سياقها توسع تدخلها في إدارة الأزمات وترسخ حضورها المباشر واصبح أمراً واقعاً مسلماً به من الجهات الدولية والاقليمية، ولدى حكام ومجتمعات وشعوب بلدان المنطقة عموما. والأخطر نجاحها في تكريس اسرائيل أداة سيطرة وهيمنة وركيزة أساسية لسياساتها. والافدح قبول النظم الحاكمة بدورها الاقليمي، والانفتاح عليها واستسهال التطبيع معها والتسليم باعتبارها طرفاً متدخلاً في أوضاعها الداخلية المتصدعة، بعد انهيار الحواجز المجتمعية الاعتراضية، وتفكك الروابط والبنى الوطنية والقومية العربية التوحيدية.

من الواضح أن النتائج الكارثية غير المسبوقة للحرب الاميركية ـ الاسرائيلية المتوالية فصولاً تدميرية، والمرشحة للاستطالة إلى أمد غير منظور، والاستمرار في استباحة سائر البلدان التي زجت في حروب تتعارض مع مصالحها الوطنية، فرضت عليها بقوة الهيمنة الخارجية والمصادرة الفئوية لارادة مجتمعاتها، التي تتحكم بقضاياها وأوضاعها الانقسامات الأهلية والنزاعات الطائفية والمذهبية والعرقية. معطوفة على مفاعيل ونتائج التدخل الاميركي في أزمات المنطقة طوال العقود الماضية، والمضاعفات التفكيكية الناتجة عن التدخلات الاقليمية الايرانية والتركية. قد وضعت بلدان ومجتمعات وشعوب المنطقة في مرحلة انتقالية، وامام تحديات غير مسبوقة، منذ ان رسمت كياناتها وخرائطها قبل ما يزيد عن مائة عام، بما فيه وعد تأسيس دولة اسرائيل في فلسطين.

والنتائج الكارثية القاهرة لا يبدل من طبيعتها ولا يخفف من وطأتها ومخاطرها على أوضاع كيانات ومجتمعات وشعوب المنطقة، إصرار قادة إيران وتنظيمات محور المقاومة والممانعة، وتحديداً حماس وحزب الله، على تكرار إدعاءات الانتصار، وإدمان ترداد مقولة فشل أميركا واسرائيل في تحقيق اهدافها، والدليل صمود النظام الايراني وعدم تصفية تنظيمات المقاومة. وخطورة انكار الوقائع لا تكمن فقط في تجاهل النتائج الكارثية والاستهانة بها، إنما في الرهان على الادارة الاميركية ليس لإجبار العدو الاسرائيلي على وقف الحرب والانسحاب من المناطق المحتلة في قطاع غزة وجنوب لبنان، إنما للقبول بها تحت سقف سيطرتها وشروطها كما الدول والاطراف الاخرى. ولذلك تتشبث بمواقع الانقسام الاهلي التي تبرر وجودها وأدوارها.

والاكثر خطورة في هذا الاداء تحوّله ذرائع تستخدمها اسرائيل لتبرير استمرار جرائم الحرب في سياق سعيها لتحقيق أهدافها الآنية والاستراتيجية وفي مقدمها إقامة اسرائيل الكبرى، وفي هذا الاطار يقع استكمال احتلال قطاع غزة وتدميره، وتنفيذ مخطط تهجير سكانه بقوة عمليات الابادة البشرية والمجاعة التي باتت أمراً واقعاً. وفي موازاة ذلك أيضا تستمر اسرائيل بتدمير مخيمات الضفة الغربية ومصادرة الاراضي وتوسيع الاستيطان وتصعيد الحصار السياسي والامني والاقتصادي على السلطة الوطنية ورفض أي دور لها في غزة. والاهم قرار الكنيست وضع الضفة الغربية تحت السيادة الاسرائيلية.

أما الوجه الآخر للخطورة في ظل السيطرة الاميركية، يتمثل باستغلال نتائج النزاعات والحروب القائمة الاهلية والاقليمية، ولمفاعيلها التفكيكية والتدميرية، ومعها المشاريع السلطوية من المواقع الطائفية والمذهبية والعرقية المتنوعة. وغايتها من ذلك العمل على تأبيد سيطرتها على النحو الذي يضمن ثبات ورسوخ المصالح الاميركية في المنطقة الاميركية . وفي هذا الاطار يقع الدعم الكامل لاسرائيل والتنسيق معها باعتبارها ركيزة لتلك المصالح وأداة هيمنة وسيطرة في آن. وعلى ذلك وفي سياقه تتوزع مواقع الادارة الاميركية بكل أجهزتها ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والمالية والعسكرية والامنية، رئاسة ووزارء وقادة عسكريين وموفدين وسفراء، المسؤوليات والمهام لتحقيق أهدافها على نحو متدرج في المنطقة وفق مسارات تتعدد فيها الخيارات ولا تتبدل الغايات.

ولأن الهدف رسوخ السيطرة الاميركية وثبات الموقع والدور الاسرائيلي، فإن كل الوسائل والطرق مشروعة لتحقيق الاهداف المرجوة ما يعني أن كل الخيارات قائمة بما فيها استطالة مسارات تحققها، تعدد طرق ازالة وتدمير ما تبقى من حواجز اعتراضية داخلية، أو على الصعيدين الاقليمي والدولي بالنظر لطبيعة المصالح الاقتصادية والسياسية المتصارعة في المنطقة وعليها. يعني ذلك أن المرحلة الانتقالية ليست لحظات خاطفة، لأننا لسنا امام حلول وتسويات جاهزة قابلة للنفاذ كما يعتقد البعض ويتوهم آخرون ظناً منهم أن الاميركي يعمل لديهم.

وما يؤكد ذلك مواعيد الهدنة في غزة، والحل في لبنان والتسوية في سوريا والاتفاق مع ايران التي يكررها الرئيس الاميركي الذي يتبى الحرب الاسرائيلية ويتشارك حكومة نتنياهو أهدافها في كل الساحات المعنية بها. ويعزز استطالة المرحلة الانتقالية أداء وزراء وموفدي الرئيس الاميركي المكلفين بإدارة المفاوضات حول مختلف أوضاع وأزمات ومشكلات المنطقة، وفي مقدمها تلك المتعلقة بوقف الحرب القائمة على مختلف الجبهات في غزة أو لبنان وسوريا والعراق واليمن، ومع ايران، ليس وفق الشروط الاسرائيلية وحسب، إنما بالاستناد إلى السياسة الاميركية وما يقع في امتدادها من رؤى وتوجهات ومشاريع الادارة الاميركية حول سبل معالجة الاوضاع الداخلية لبلدان المنطقة وإعادة تشكيل السلطة وبناء موسساتها واجهزتها على النحو الذي يتوافق مع اهدافها واولها السلام مع اسرائيل.

وصيغ التفاوض متعددة ومتشابكة بين قضايا الداخل ونتائج الحرب المستمرة على سائر الجبهات. وأهداف المشاركين تحددها مواقعهم الداخلية أو ادوارهم الاقليمية والدولية. ومساراتها علنية وسرية. ونهايتها مرتهنة لتحقيق الغاية المرجوة منها بالنسبة للاطراف المعنية بها، وليس لرغبات وطلبات المتضررين من الحرب الذي لا يقيم أحد وزناً لمعاناتهم. أما النتائج فهي مرهونة لموازين القوى المختلة على نحو فادح لمصلحة التحالف الاميركي ـ الاسرائيلي، الذي يرى في استمرار الحرب فرصاً إضافية لتنفي مخططاته وتحقيق أهدافه.

وعليه تتوالى فصول الاستهانة بحياة ووجود سكان قطاع غزة والعبث بمصير الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية وحقوقه. وفي موازة ذلك تتصاعد حدة الصراعات الأهلية والحوادث الطائفية في سوريا بنتيجة تفرّد تشكيل المجموعات الاصولية تولي السلطة وإدارة شؤون الحكم فيها، على النحو الذي يحول دون معالجة اشكاليات الاقليات وبقاء الابواب مشرعة امام الدور الاميركي الذي يتولى ضبط التدخل التركي، ورعاية الاحتلال الاسرائيلي لمواقع استراتيجية مدخلاً لتكريس ضم الجولان وإقامة وتشريع حق التدخل في الاوضاع الداخلية بين مكونات الشعب السوري وإقامة منطقة منزوعة السلاح على طول الحدود بضمانات اميركية وفق نتائج مفاوضات باريس بين الطرفين. وفي السياق عينه تتوالى التهديدات الاميركية والاسرائيلية بتجديد الحرب على ايران، في إطار الضغوط المتواصلة عليها لإقفال ملفها النووي والتوافق على حدود دورها الاقليمي ووظائفه، بالتوازي مع تصاعد الرهانات على نتائج الصراع على السلطة في ضوء نتائج الحرب التي وقعت عليها. ولا يختلف الامر من حيث الاهداف مع العراق واليمن.

وفي لبنان ولأن العهد والحكومة لم يتمكنا من تجاوز المشاريع الفئوية لأكثرية اطراف السلطة، يتجدد تكرار الالتزام بتنفيذ قرار تسليم السلاح وإقرار الاصلاحات الادارية والقضائية والمالية، في مواجهة تصاعد الضغوط الخارجية بالتوازي مع ارتفاع وتيرة الممارسات العدوانية الاسرائيلية. يؤكد ذلك الردود المبدئية والمطالب المشروعة بوقف الاعتداءات وانسحاب جيش العدو من المواقع المحتلة. وهي الردود التي تسلم للموفد الاميركي الذي يكرر مطالبته بنزع السلاح واعتباره مسؤولية داخلية، إلى جانب وعود الدعم الخارجي المشروط. في المقابل يتعثر إقرار الاصلاحات، ويتجدد الخلاف بين قوى الداخل ويتعمق الانقسام الاهلي، حول التعامل مع قضية السلاح بين من يطالب بنزعه أو تسليمه، ومن يتحصن به انطلاقاً من حسابات طائفية وفئوية.

ولذلك تواصل قيادة حزب الله البحث عن مبررات للاحتفاظ بسلاحه الذي أخرج من دائرة مقاومة اسرائيل. يجري ذلك بالعلاقة من ناحية مع أزمات الداخل الموروثة والمتجددة حول تقاسم السلطة ومواقع المسؤولية والصلاحيات بما فيه المطالبة بضمانات دستورية، ومن ناحية أخرى بالعلاقة من الازمات الطائفية المتفجرة في سوريا وتبدل السلطة التي يصنفها في موقع العداء له. وعلى ذلك يبقى لبنان، من جهة أسير انتظارية قاتلة في ظل أزماته المورثة المتحدرة من حقبات سابقة، والمستجدة الناجمة عن الانهيار العام ونتائج الحرب المدمرة. ومعها الضغوط الخارجية التي تتضمن المطالبة بنزع السلاح وتقديم التنازلات للحصول على السلام مع اسرائيل.

في عصر السيطرة الاميركية، كثيرة هي التحديات والصعوبات التي تضع البلدان والمجتمعات والشعوب العربية، امام كم لا ينتهي من التحديات المصيرية. ولأن الاوطان والدول لا تبنيها الفئويات المتنازعة والشعارات الجوفاء، ولا تحميها المغامرات الانتحارية من مواقع الانقسام الأهلي. ولأن بقاءها قائم على تغليب المشتركات بين مكوناتها رغم خلافاتها.

ولأن أولويات الخارج مصالحه. فإن بقاء وإنقاذ بلدان المنطقة ومنها لبنان، لا يمكن له أن يتحقق إلا من خلال تظافر جهود أبنائها. وعليه فإن العهد والحكومة ومن هم في موقع المسؤولية، مطالبون وقبل فوات الآوان بالتوافق على خارطة طريق لتنفيذ تعهداتهم والتزاماتهم التي خاطبت طموحات أكثرية اللبنانيين وحظيت بتأييدهم، باعتبارها الضمانة لإعادة بناء الدولة الوطنية، القادرة على النهوض بلبنان والتعامل مع ضغوط الخارج وشروطه، انطلاقاً من المصلحة الوطنية المشتركة، بما فيه حماية لبنان ومواجهة اهداف العدو واطماعه. وخلاف ذلك هو أقصر الطرق نحو المجهول.

اخترنا لك