لبنان يودع الفنان المتمرد زياد الرحباني : المتباكون عليه قتلوه مرات باغتيال أحلامه

بقلم زهير هواري

انقصف غصن مبدع وفريد في الدوحة الرحبانية، فقد ودعنا زياد عاصي الرحباني عن 69 عاما، وجلست فيروز الأم الحزينة في قاعة الكنيسة بالطرحة والثياب السود، وإلى جانبها أبنتها ريما وشقيقتها هدى، تتلقى بصمت تعازي الجموع التي تقاطرت للمشاركة في التشييع، وبلسمة جراح ايقونة لبنان الباقية أبدا. لكن لا شيء يبلسم جرح الموت، أو يقلل من وقع الخسارة بالنسبة لفيروز أولا والعائلة ثانيا وللفن ثالثا وللبنان والبلاد العربية رابعا. فقد رحل زياد بعد صراع وعراك مع مرض عضال لا يرحم واجهه بشجاعة وجرأة من لا يخشاه. كل الذين هالهم نبأ الوفاة تقاطروا للوداع الأخير أمام مدخل مستشفى بخعازي – فؤاد خوري سابقا- في شارع عبد العزيز ثم في شارع الحمرا، صعودا إلى المراسم في المحيدثة في بكفيا والدفن في شويا.

من عمره البالغ 69 عاما أمضى زياد أكثر من 50 عاما في رحاب الفن والموسيقى والكلمات التي رضعها من صدر وصوت أمه، ومن إبداع أبيه عاصي وعمه منصور، وكل الذين تحلقوا حول العائلة من مبدعين. لكن زياد لم يكن صنيعة عاصي وفيروز وبيتهما المسكون بالأغاني والموسيقى والشعر، ربما يستطيع أي متابع اعتباره تعبيرا عن عبقرية مرحلة بأمها وأبيها. كل الذين شاركوا في تشييعه يعرفون أنهم كانوا يودعون أعمارهم الراحلة في أيام وسنوات الحروب والاحلام المتكسرة. وهي التي امتدت من أوائل الستينيات من القرن الماضي وحتى الأمس عندما فارقت الحياة جسده الناحل.

لكن زياد خلال تلك السنوات وإن كان قد خرج من البيت الرحباني إلا أنه خرج عليه في الوقت ذاته. في أوائل موسيقاه وأعماله المسرحية كان ينهل من هذا النبع الذي صاغه الأخوان كلمات وموسيقى وقدمته فيروز بصوتها وصبرها الملائكي. أخذ زياد من والديه ما أخذ، لكنه أندمج بالمرحلة التي ظهرت صارخة مع أوائل السبعينيات ولبنان يغلي فنا وثقافة وشعرا وغناءً وتمردا على قوالب الحياة الريفية التي جرى تقديمها من أهله، باعتبارها جنة الفردوس الهانئة التي يعكر صفوها الغريب، الذي يأتي على حين غرة فيسرق الجرة ويكسر مزراب العين، ويسرق المونة المخبأة لمواسم الريح الهادرة والثلج المتراكم والطرق المقطوعة والجبال البيضاء والرزق الممنوع أن يصل البيوت. ناهيك بالحاكم المتسلط الفاتك والشخص والديكتاتور والذين تواجههم غربة ابنة ابيها الذي سقط مدافعا عن بوابة القرية – الوطن.

خلال تلك المرحلة كان لبنان أشبه ما يكون بمرجل يغلي بما في داخله من عناصر. ولم يعد يقنع أحدا بقاء الحال باعتباره المحال. الطلاب يتظاهرون في الوسط التجاري مطالبين بتعريب المناهج وقيام الجامعة اللبنانية وتوسيع برامجها وكلياتها الدراسية، والعمال يضربون عن العمل ويتصادمون مع الجيش وقوى الأمن، مؤكدين رفضهم استمرار سيف المادة 50 مسلطة على رقابهم، وهي التي تمنح حق الصرف الكيفي لأرباب العمل دون قيد أو شرط. والجنوبيون والعكاريون والبقاعيون من فلاحين ورعاة في القرى يتلقون جنوبا زخات القذائف، ويغادرون قراهم جموعا نازحين مكرهين إلى العاصمة وضواحي البؤس. والفقراء يجأرون بالشكوى من هذا الظلم الذي يكبل حياتهم اليومية في الأرياف ويجعلهم عاجزين عن تدبير رغيف الخبز وحبة الدواء وقطرة الماء. كل هذا دون أن ننسى انفجار القضيتين الوطنية والقومية بعد الخامس من حزيران 1967. بكل ما عبرت عنه من هزيمة وانكسار. زياد الرحباني الذي وإن كان تتلمذ على المدرسة الرحبانية، إلا أنه تمرد عليها، كما تمردت هي على الشعرية الغنائية العمودية والموسيقى المصرية والقدود الحلبية السورية.

وخرج على ما رسمته له العائلة وترسمته من قيم ريفية تتسم ببراءة الحياة، بينما المدن تغلي بتناقضاتها التي تنذر بالانفجار الذي يطيح بكل ما هو أمامه من سدود. استوعب زياد ما يدور حوله وثار على اللغة عندما أنزل الأغنية من علياء نص الحداثة والكلام الموزون المقفى إلى مستوى الحياة اليومية، وما تطلقه من تعابير عن كل ما يمر بها وتمر به من وقائع وخيبات أمل، ومغالبة في تأمين المياه في تتخيتات البيوت، إلى الحصول على “الخسة” التي تزرعها، لكنها عندما تغادرك إلى السوق تصبح أسيرة ارتفاع الأسعار الذي لا مستقر له، ويصبح الحل لوقف هذا الارتفاع عند حدوده أن يعجل رضا بأكلها.

عاش زياد يساريا وشيوعيا وديمقراطيا في وطن تتكالب عليه الرأسمالية اللبنانية، ومن وراءها من عرب عاربة وعولمة مدولة، وظل يحن إلى زمن كانت فيه الشيوعية تقارع بالحديد والنار هذا الظلم الفادح، الذي تمارسه الرأسمالية وهي تضع نير عبوديتها على أكتاف الفلاحين والعمال وصغار الكسبة والموظفين، وتفلح عليهم طوال أيام الأسبوع.

وكان زياد الأصدق تعبيرا عن أحلام تلك الكوكبة التي أرادت هذا الوطن محررا من آثام وشرور الاستغلال والنهب والطائفية التي تدمر مقوماته. وليس من قبيل الصدفة أن يختار محل إقامته، فيما كان يسمى آنذاك بيروت الغربية وينحاز لدور قواها سياسيا وفكريا. ثم يبدع مع صديقه المخرج السينمائي الراحل جان شمعون تلك الحلقات اليومية التي أذيعت من الإذاعة اللبنانية بعنوان ” بعدنا طيبين قول الله”. بالطبع إلى جانب اعماله المسرحية التي حاكت أوجاع الناس في تلك المراحل القاسية من حياة البلاد.

وظل زياد فنانا متمردا وفذا طوال تلك العقود التي بلغ طوفان الدم فيها مداه الأقصى، لكنها سنوات تمثلت بالمغالبة التي خاضها اليسار والحركة الوطنية والعلمانيون، وعندما تجرعوا كأس الهزائم المتلاحقة بنيران الدبابات السورية أولا والإسرائيلية ثانيا، انتصرت الطوائفية على الفكر الوطني الديمقراطي العلماني، ومعه أخذ زياد يفقد ذلك الألق الذي طالما تمتع به بين جمهوره.

وهكذا تكالبت على تجربته قوى طائفية من كل الضفاف منعت عليه تنسم هواء الابداع والفن والحرية. كثيرون ساعة رحيله، ممن حاولوا التنكر بزي المفجوعين على غيابه، سبق وقاموا بمنعه من ممارسة فنه الإبداعي في مناطق هيمنتهم ومنعوا اذاعة أغانيه وأغاني فيروز من الجامعات والبيوت، باعتبار الفن هو من المحرمات الدينية.

الآن وضمن سياستهم بالنفاق تذكروا أن زياد قامة عصية على الإنكار، فتقدموا الصفوف وألقوا عبارات رنانه بعد موته، بينما نصَّبوا أنفسهم قبلا رقباء على أعماله ونشاطاته. أما أولئك الذين حسبوه عليهم فقد داروا عجزهم عن ممارسة نقد ما أقترفته أيديهم من أخطاء وخطايا والتخطيط لمستقبل نضالهم، بالاستظلال تحت فيئه، وإشاعة أنهم يتوجهون نحو ترشيحه لشغل منصب نيابي، في بلد يهيمن عليه غيلان المال والاعمال والطوائف المسنونة الأسنان لالتهام زياد وكل زياد ممن هو علماني أيا كان اسمه ورسمه وموقعه. في غضون أكثر من عقدين اتجه زياد نحو الموسيقى والتلحين، وغارت مشاريعه المسرحية في بطون الأرض التي باتت بورا لا تنبت حتى بلانا وعوسجا.

وعليه لم يستطع أن يطلق واحدة من أعماله، بينما ظل جمهوره يتعيش على عروضه السابقة التي وضعته في قمة الابداع الشعري والموسيقي والمشهدي. وكل هذا لم يكن بفعل الصدفة، بل نتيجة فعل الطائفيين الذين تباروا بالأمس في رثائه، بينما سبق واعتبروه في حياته بمثابة مارق وعدو يجب أن يحارب بكل الوسائل، وليس مجرد خصم ثقافي.

غادرنا زياد بعبثه وابداعه وقدرته غير المحدودة على خلق الجمل الموسيقية ومطابقاتها على الكلام العامي واليومي، وبناء الشخصيات المسرحية من رحم الواقع بتناقضاتها وشطحاتها وتقاطعاتها وحالات قوتها وأوضاع هزالها وحبكات مصائرها في بلد يُقاد إلى الجحيم بسلاسل المذاهب والمقدسات وإتهام الآخرين بالكفر والزندقة.

الآن الكل شعر بالخسارة، وكأن الكثيرين من الذين شاركوا في حفل التشييع والمأتم، يريدون أن يغسلوا أيديهم من الآثام التي ارتكبوها بحق هذا البلد، الذي أراده زياد وكذلك عاصي ومنصور وبالتأكيد فيروز، صافيا من الوجع ودموع الخسارات وشعور الأسف والأسى والمحازن التي تطغى على أهلنا وبلادنا قمعا وقهرا وفقرا وفقدانا للكرامة الوطنية والآدمية، وعجزا عن النهوض بمقومات الحياة التي تليق بهذه الجبال العالية والسهول الوادعة كأبيات رقراقة من كلمات الحب والحنين والتعب وعرق الجبين الصافي، التي أبدعها شعب لبنان بألسنة المدرسة الرحبانية وغيرهم من كبارها المؤسسين إلى أبنائهم مكملي هذه الرسالة.

اخترنا لك