بقلم خلود وتار قاسم
في زمنٍ كانت فيه الكلمة موقفًا، وكان الخطر المحدق بالوطن يولّد في النفوس طاقة مقاومة وفكرًا بنّاء، وقف الإمام موسى الصدر خطيبًا عام 1970، يُحذّر من الهاوية الآتية، ومن نظام مهترئ قائم على تهميش الإنسان وحرمانه، وإقصاء العلم، وتعويم الزبائنية السياسية. لم يكن حديثه نبوءة، بل قراءة دقيقة لخريطة الخطر الاجتماعي والسياسي الذي بدأ يتغلغل يومها في جسد الوطن، والذي نعيشه اليوم بكل تداعياته الكارثية.
الإمام الصدر، في محاضرته التي ألقاها في الذكرى الثالثة لاختفاء الحاج وفيق سليمان، عبّر بوضوح عن إدراكه لأهمية بناء الإنسان قبل الحجر، فخاطب الحضور قائلاً إن “المسؤولية التاريخية لا تُقاس بالألقاب ولا بالجاه، بل بقدرة الإنسان على أن يكون في موقع الفعل لا التبعية”، وأكد أنّ المعرفة والحق والعدل هي أسس الوطن المتين، محذّرًا من وطنٍ يبنى على الجهل والفقر والعصبيات.
وبينما كانت كلماته تستنهض الضمير، نجد اليوم أن الغالبية العظمى من رجال السياسة، ومع الأسف، يتنكرون لهذا الإرث الوطني الأخلاقي. فبدل أن يضعوا أمن المواطن أولًا، يتاجرون بهمومه. وبدل أن يسعوا إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، يغذّون الانقسامات. في حين أن الإمام الصدر دعا إلى الوحدة والانتماء، نراهم يبنون زعاماتهم على شرذمة الناس وتكريس التبعية الطائفية.
ما قاله الإمام الصدر منذ أكثر من خمسين عامًا عن أن “الناس لم يعودوا يشعرون بالثقة، ولا يجدون عدالة أو أمنًا أو أملًا”، لا يزال هو ذاته ما يشعر به اللبناني اليوم، لكن بدرجات مضاعفة. لقد بات الفقر أكثر شراسة، والفساد أكثر وقاحة، والدولة أكثر غيابًا.
رجال الماضي، أمثال الإمام موسى الصدر، كانوا يمتلكون بوصلة واضحة: الوطن والإنسان أولًا. أما معظم رجال اليوم، فلا يرون إلا مصالحهم، ولا يتحركون إلا تحت ضغط الانهيار أو الانفجار.
ختامًا، من الضروري أن نُعيد قراءة محاضرات أولئك الكبار، لا كأرشيف سياسي أو ترف فكري، بل كدروس حيّة في الوطنية الحقيقية، علّنا نُعيد تصويب المسار، وننقذ ما تبقّى من وطنٍ يحتضر.