السلاح زينة الرجال… ولكن العقل زينتهما معًا
(ج1) قراءة في فكر الإمام موسى الصدر ودعوة لحماية الدولة من عبث الفوضى المسلحة
بقلم السيّد حيدر الأمين
في ظل ما يشهده لبنان من تحديات سياسية وأمنية متصاعدة، يعود إلى الواجهة صوت الإمام موسى الصدر، صوت العقل والاعتدال، الذي واجه في زمنه محنًا مشابهة. وفي خضم هذه المحن، قال عبارته الشهيرة: “السلاح زينة الرجال”. لكن هذه العبارة، التي استُخدمت خارج سياقها، تخفي خلفها دعوة صريحة لحماية الدولة لا تجاوزها، ولم تكن يومًا تبريرًا لواقع السلاح المنفلت أو المشاريع الخارجة عن شرعية الدولة.
سلاح الضرورة لا سلاح الفوضى
في سبعينيات القرن الماضي، وتحديدًا في جنوب لبنان حيث كانت الدولة غائبة فعليًا، شكّل السلاح ضرورة دفاعية في وجه الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة. في ذلك الزمن، أكد الإمام الصدر أن الهدف لم يكن إقامة دولة داخل الدولة، بل حماية الناس إلى حين عودة الدولة لممارسة دورها.
وفي حديثه لمجلة “الحوادث” بتاريخ 24 كانون الأول 1976، صرّح بوضوح: “إنني لا أريد أن أقيم دولة داخل الدولة، ولا أن ألغي مؤسساتها، ولكنني لا أقبل أن يكون الجنوب مستباحًا بلا حماية.”
لا سلاح فوق الدولة
رفض الإمام الصدر أي سلاح أو تنظيم مسلح خارج إطار الدولة، معتبرًا أن: “الدولة هي الضامن الوحيد للحقوق والكرامة، ولا يجب أن يعلى على سلطة الدولة أي سلاح أو سلطة أخرى.”
وشدد على أن التنظيمات المسلحة خارج الدولة تمثل خطرًا على وحدة الوطن والسلم الأهلي.
من فكر الإمام علي إلى نهج الدولة
استند الإمام موسى الصدر في رؤيته لبناء الدولة إلى تراث أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي أكد أن العدل هو أساس الحكم، وأن الدولة العادلة وحدها تحفظ وحدة الأمة. ففي عهده إلى مالك الأشتر، يوضح الإمام علي المبادئ التي يجب أن تحكم سياسة الدولة وعلاقة الحاكم بالرعية، قائلًا: «وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية، فإن سخط العامة يُجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يُغتفر مع رضى العامة… فأما أهل العدل، فإنهم عماد الدين، وجماعة المسلمين، والعدة للأعداء، فاجعل لهم قسما من مجلسك، ووقتا من عملك…»
هذا المبدأ هو جوهر ما نادى به الإمام الصدر: لا شرعية لسلاح لا يخضع لمؤسسات الدولة، ولا أمن بدون سلطة موحدة. فحصر السلاح بيد الدولة الشرعية لا يُعد مجرد إجراء تنظيمي، بل هو ركيزة أساسية للحفاظ على وحدة المجتمع اللبناني واستقراره. وفي ظل التعدد الطائفي والجغرافي، تصبح الدولة القادرة على فرض سيادتها الأمنية والقانونية هي الضامن الأبرز لمواجهة الأعداء وردع أي اعتداءات داخلية أو خارجية.
إن هذه الوحدة الوطنية لا تحمي التماسك الداخلي فحسب، بل تعزز قدرة الدولة على مجابهة التحديات الاستراتيجية. فالأمر لا يقتصر على الأمن فقط، بل يمتد إلى الاستقرار الاقتصادي والقانوني والصناعي، لأن الدولة القوية والمتطورة سياديًا تملك قدرة أكبر على الصمود في وجه الضغوط والاعتداءات.
وفي سياق آخر، يُبرز الإمام علي أهمية بناء الجيش وربطه بالخزينة العامة وعدالة التوزيع، فيقول: «واعلم أن الجنود، بإذن الله، حصون الرعية، وزين الولاة، وعزّ الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج…»
ويتابع في شأن السياسة الخارجية والتعامل مع الأعداء والوفاء بالعهود: «ولا تدفعن صلحًا دعاك إليه عدوك، ولله فيه رضى… وإن عقدت بينك وبين عدوك عهدًا… فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة… فلا تغدرن بذمّتك، ولا تخيسن بعهدك، ولا تختلن عدوك…»
هذه الرؤية الأخلاقية والسياسية المتقدمة التي أرساها الإمام علي، هي ما استلهمه الإمام الصدر في دعوته إلى دولة العدل والمؤسسات، دولة القانون والوحدة، دولة تُمارس سيادتها من دون غدر أو خيانة، وتحفظ كرامة الإنسان.
وهكذا، يتجلّى بوضوح أن رؤية الإمام موسى الصدر للدولة لم تكن اجتهادًا سياسيًا معزولًا، بل امتدادًا حيًّا وواعيًا لنهج الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي جعل العدل والأمانة ووحدة الأمة أسسًا للحكم الرشيد. فالدولة التي تُبنى على المؤسسات العادلة، والسيادة الشرعية، والجيش المنضوي تحت راية القانون، هي وحدها القادرة على حماية المجتمع وتحصين الوطن. من فكر الإمام علي إلى نهج الإمام الصدر، تبقى الدولة العادلة القوية هي الضمانة الكبرى لوحدة الأمة وكرامة الإنسان.
المقاومة: حق مشروع… ضمن ضوابط الدولة
لم يكن الإمام الصدر يومًا ضد المقاومة، بل كان أوّل من دعا إليها حين غابت الدولة. لكنه قال بوضوح: “نحن مع المقاومة المشروعة التي تدافع عن الوطن وترفض الاحتلال، وليس مع الفوضى المسلحة التي تضر بالوطن والمواطن.”
ولهذا دعا إلى أن تكون المقاومة لبنانية خالصة، تحت راية الدولة، بعيدًا عن الأجندات الخارجية التي تُضعف وحدة الوطن.
السلاح والأجندات الخارجية
لا يجوز أن يرتبط أي سلاح في لبنان بأجندات خارجية تُضعف كيان الدولة اللبنانية. إن أي مقاومة يجب أن تكون لبنانية بحتة، تحت جناح الدولة اللبنانية وجيشها النظامي، حيث قدّمت الطائفة الشيعية خيرة شبابها وقياداتها الذين ضحّوا لأجل لبنان. وكل حديث أو تصوير للطائفة الشيعية كفرقة خارجة عن القانون هو إهانة لتاريخها المتجذر بعمق في تراب هذا الوطن وتكوينه. يجب أن يدرك الجميع أن قوة الشيعة لا تأتي من السلاح، بل في علمهم، وعقلهم، ومعرفتهم الممتدة لأكثر من ألف وأربعمائة عام.
الشيعة: جزء أصيل من نسيج لبنان
رفض الإمام الصدر تصوير الطائفة الشيعية كفرقة منفصلة أو مشروع خارج الدولة، مؤكدًا أن الشيعة: “ليسوا فرقة من الفرق، ولا تنظيمًا عبثيًا يتغير بتقلب الأهواء، بل هم جزء لا يتجزأ من نسيج الوطن اللبناني.”
كما نبّه إلى خطورة استغلال الطائفة في مشاريع لا تمت بصلة إلى تاريخها العريق القائم على العلم والعقل والحكمة.
دعم فكري معاصر لرؤية الصدر
امتدادًا لفكر الإمام الصدر، شدد كل من الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد علي الأمين على مركزية الدولة. قال شمس الدين: “الدولة ليست مجرد سلطة، بل مظلة تحمي الكل. وأي سلاح يهدد هذه الوحدة يجب أن يُرفض.”
“أكّد أن الدولة هي الإطار الضروري لتنظيم شؤون المجتمع، وتُعتبر الضامن الأول للأمن، والعدالة، والحقوق. وبالتالي، لا يمكن تجاوزها أو بناء سلطات موازية تتحدى شرعيتها.”
أما السيد علي الأمين، فأكد: “الطائفة الشيعية أكبر من أي حزب أو زعيم، وما تحتاجه اليوم هو العودة إلى مشروع الدولة الواحدة التي تحمي الجميع وتحافظ على وحدة لبنان.”
“المقاومة وسيلة دفاع وليست غاية، ويجب أن تكون دائمًا تحت سقف الشرعية الوطنية.”
“نحن نؤيد المقاومة ونريد حفظها, ولكننا لسنا من الذين يكيلون لها المديح كما حصل مع المقاومة الفلسطينية العام 1982, من الدول والشعوب العربية, وعندما وقعت الحرب ذبحت وتركت وحدها. إذا نحن لسنا مع المقاومة التي تجعل الجنوب ولبنان كله يدفع ثمن الصراع العربي – الإسرائيلي.”
“نحن نرفض ان يبقى الجنوب ولبنان ساحة للحرب غير المتكافئة خصوصا وان الصراع العربي الإسرائيلي هو صراع كلفته باهظة ويجب ان يتحملها العرب جميعا وليس لبنان وحده.”
“قد يدخل الإنسان في الحرب ولكن السؤال هو هل يمكن ان يخرج منها؟ الله اعلم، لا يعلم الذي يدخل في الحرب متى يخرج منها، باعتقادي ان الدخول في الحرب هو تدمير للمنطقة لان الدخول في الحرب هو دخول في الخطر المدمر ولا يعلم إلا الله من الذي سيخرج من هذه الحرب.
وهذه ليست طريقة عقلانية ان يهرب الإنسان من الخطر الأقل إلى الخطر الداهم او الأشد. الطريق المعقول هو ان نحتكم إلى دولنا ومؤسساتنا المحلية والدولية وقوانيننا وهذا ما يمكن ان ينقذنا ويدفع الخطر عن المنطقة.”
يتبع…