ماذا بقي من أحبّتهم؟ أهالي ضحايا ٤ آب يواجهون الذكرى الخامسة بمرارة الانتظار

بقلم ماريانا الخوري

خمسة أعوام مرّت على الانفجار الذي شطر قلب بيروت وأطفأ آلاف الأحلام على عتبة المرفأ. تمرّ الذكرى على اللبنانيين مرّة كل عام، لكنّها تمرّ على أهالي الضحايا كلّ يوم، مع كلّ تنهيدة، في كلّ صورة معلّقة على الجدران، وفي كلّ زاوية فارغة كانت يومًا تنبض بأحبّتهم. الزمن لا يمرّ على من فقد، بل يتجمّد في لحظة الألم.

كلّما حلّ الرابع من آب، يعود الجرح ليُفتح من جديد، وتُنبش الذاكرة كأنّ الانفجار وقع البارحة. الدولة نسيت، أو تناست، لكنّ الأمّهات لم ينسين. آباءٌ يفتّشون عن حقّ أبنائهم، إخوة وأخوات ما زالوا يصرخون في وجه الصمت. خمسة أعوام من الحداد، من الحزن الذي لم ينتهِ، ومن الأسى الذي لم يجد طريقه إلى العدالة. لا ثأر في قلوبهم، فقط إصرار على ألّا يُدفن الملف كما دُفنت أجساد أحبائهم تحت الركام.

في هذا العهد الجديد، يعلّق كثيرون آمالهم على بصيص نور قد يعيد الملف إلى مساره. لكنّ الأهالي يعرفون أنّ الطريق طويل، ومحفوف بالتحدّيات. ومع ذلك، لا يزالون يسيرون عليه، حاملين صور أبنائهم في وجوههم، ووجعهم في أصواتهم إلى حين تتحقق العدالة.

ماذا تبقّى منهم؟

خلال لقاء “نداء الوطن” مع بيتر، شقيق الضحية جو بو صعب، عرض علينا ما تبقّى من أخيه: “هذه الطاسة، هي كلّ ما بقي منه”، قالها وهو يقبض عليها كأنها آخر خيط يربطه بروح غابت. “عندما وصل جو إلى الثكنة، لم يسعفه الوقت ليرتدي عدّته، نزل بلباسه المدني إلى مهمته الأخيرة… ولم يعد”. خمس سنوات من العذاب والتضحيات مرّت، يقول بيتر، لكنّه لا ينوي التوقف قبل أن تُنصف العدالة شقيقه: “أنا قريب جدًا من أخذ حقك يا جو”.

وفي حديثه عن المسار القضائي، كشف أنّ وفدًا من الأهالي اجتمع قبل عشرة أيام برئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، وتلقّى وعدًا شخصيًا منه بأن يكون هذا الملف في عهدته، متعهّدًا بالاهتمام بما يحصل اليوم بدلًا من الغرق في ما فات.

ومع اقتراب الذكرى، دعا بيتر إلى المشاركة في المسيرة المرتقبة يوم الإثنين، حيث سيلتقي المشاركون في نقطتين: سكن فوج الإطفاء والمرفأ، على أن يُختتم التحرك عند تمثال المغترب، مشدّدًا على أن “بعد 4 آب، لكلّ حادث حديث”.

“في كل زاوية من بيروت…أراه”

بالنسبة لويليام نون، شقيق الضحية جو نون، فإنّ السنوات الخمس الماضية لم تكن سوى سلسلة من المحطات القاسية، قضائيًا وشخصيًا ونفسيًا، لكنّه يؤمن أنّ النضال هو وحده ما أبقى هذا الملف حيًا: “لو لم نتابع ونصرّ، لكان أُقفل مثل سائر الملفات المنسية”.

اليوم، يرى ويليام أنّ القرار الظني المنتظر بات قريبًا جدًا، وفق ما يُتداول، معربًا عن أمله في أن يكون “مقنعًا وشاملًا لكشف كيف وقع الانفجار”، مضيفًا: “نعلّق آمالًا على وعود رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، ولكنّ العبرة بالتنفيذ، والعدالة هي الهمّ الأكبر الذي شدّد عليه الرئيس في قسمه، وتحدث عنه رئيس الحكومة في بيانه الوزاري”.

أمّا عن جو، فحضوره لم يغب يومًا: “كنا دائمًا معًا من المدرسة إلى العمل نفسه، لدينا الأصدقاء أنفسهم والمشاريع ذاتها. كل جلسة مع رفاقي أشعر بأنّ شيئًا ناقصًا، بيروت كلها أصبحت ذكرى له”. لكنّ الذكرى الأشدّ حضورًا كانت الكنيسة التي بناها له والداه: “هي أكبر ما تبقّى منه: كنيسة من نور، تحمله في حجارتها وجرسها وصلواتها”.

اسمه الذي ولد من جديد

بعينين تغمرهما الدموع وصوت مرتجف، تحدثت إلينا الأستاذة سيسيل روكز، شقيقة الضحية جوزيف روكز، عن فقدها أخاها الذي لم ينادها يومًا باسمها، بل بـ “أختي”، تقول: “ما تبقّى من أخي كل أخلاقه، حنيّته، صوته، حديثه معنا كل يوم، صورته في كل ركن من البيت، ونشعر بوجوده دائمًا”، كان الغياب ولادة جديدة، فقد رُزق شقيقها الأصغر بمولود رابع، رغم أنه لم يكن ينوي إنجاب المزيد، فاختاروا له اسم “جوزيف”، كأنما هو هدية من الراحل نفسه.

وعن الملف القضائي، توضح سيسيل أنّ القاضي المكلف أنهى إعداد لائحة أسماء المدّعى عليهم، ولا يزال بانتظار بعض الاستنابات من الخارج قبل عرض الملف على النيابة العامة لإصدار القرار الظني. وتقول: “نحن نسمع وعودًا، ونشعر ببعض الإيجابية من خطاب رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، لكننا نردّد دائمًا: العبرة بالتنفيذ”.

وتتابع: “نحن لا نطلب المستحيل، بل نطالب الدولة بالقيام بواجبها. هناك مدينة دمّرت بالكامل، وحق عام يجب أن يُصان. نريد محاسبة من تسبّب في هذه الكارثة، ليكون عبرة لمن يستهتر بحياة الناس”.

وتُصرّ على إبقاء الأهراءات كشاهد ماديّ على الجريمة، ورمز جماعي لذكرى الضحايا: “الأهراءات ليست حجارة فقط، بل ذِكرى لكل الذين سقطوا من دون أي سبب، ضحايا قرارات مجرمة كان يفترض أن تراعي السلامة العامة، الدولة ملزمة بالحفاظ على هذا الرمز، ليبقى شاهدًا للأجيال”.

235 شهيدًا

“ماذا تبقّى منهم؟” سؤال لم يعد مجازيًا. هو واقع يوميّ يعيشه الآباء، والإخوة، والأمّهات الذين يمسكون ببقايا صغيرة من حياة كبيرة خُطفت بلحظة. من طاسة حريق، إلى صورة على الجدار، إلى مسبحة، إلى اسم أُطلق على مولود جديد… ما تبقّى ليس مجرّد تذكارات، بل قضيّة وطن، وأهالٍ لا يطلبون معجزة، فقط قاضيًا حرًا، مسارًا قضائيًا نزيهًا، وأسماء المتورّطين في قاعة المحاكم، لا على صفحات الجرائد.

اخترنا لك