معمل نفايات صيدا…من يفتح مغارة “علي بابا”؟

بقلم وفيق الهواري

تشهدُ قضيّةُ معالجةِ النفاياتِ في مدينةِ صيدا فصلًا جديدًا من التطورات، حيثُ يستعدُّ المجلسُ البلديُّ لمناقشةِ ملفٍّ شائكٍ في جلستِه المقرّرة يومَ الخميسِ السابعِ من آب الجاري، وذلك في حالِ انعقادِها.

تكتسبُ هذه الجلسةُ أهميّةً خاصّة، كونَها الثالثةَ فقط منذ الانتخاباتِ البلديّةِ الأخيرة، ما يضعُها تحتَ المجهرِ كاختبارٍ حقيقيٍّ لجدّيّةِ المجلسِ الجديدِ في التعاملِ مع الملفاتِ الحيويّة.

على جدولِ أعمالِ هذه الجلسةِ الحسّاسة، يبرزُ موضوعٌ محوريٌّ يتعلّقُ بكيفيّةِ التواصلِ مع اختصاصيّينَ ومستشارينَ تقنيّينَ دوليّين مؤهّلينَ لمراقبةِ أداءِ معملِ معالجةِ النفاياتِ من الناحيتينِ التقنيّةِ والعلميّة. هذا المعملُ الذي وُصف بأنّه “علامةٌ فارقةٌ في معالجةِ النفاياتِ عبرَ اللامعالجة”.

مطالب المديرِ

جاءت هذه المبادرةُ بناءً على “تمنٍّ” للمديرِ العامِّ للمعملِ أحمد السيّد، وفقًا لما تضمّنَه البيانُ الصادرُ يومَ الجمعةِ الأوّلِ من آب 2025. هذا البيانُ، الذي صدرَ بعد مرورِ تسعةِ أيّامٍ كاملةٍ على انعقادِ اجتماعَين مهمَّين – أحدُهما في بلديّةِ صيدا والآخر في إدارةِ معملِ المعالجة – يطرحُ تساؤلاتٍ جدّيّةً حولَ التوقيتِ والدوافع.

لكنّ ما يثيرُ الانتباهَ أكثر هو التفسيرُ المحتملُ لهذا “التمنّي” الذي قد يكشفُ عن حقيقةٍ مؤلمة: أنَّ أعضاءَ اللجنةِ من الجانبِ البلديِّ قد لا يملكونَ المستوى المطلوبَ من الخبرةِ التقنيّةِ لمواكبةِ ومتابعةِ خططِ “التطويرِ والتحديثِ” التي تدّعي إدارةُ المعملِ تنفيذَها، والتي تبدو حتى الآن مجرّدَ حبرٍ على ورق.

الوعودِ المتكرّرة

تكشفُ الوثائقُ الرسميّةُ عن نمطٍ متكرّرٍ من الاجتماعاتِ والاستماعِ إلى خططِ التطويرِ دونَ تحقيقِ نتائجَ ملموسة. فبحسبِ بيانِ المكتبِ الإعلاميِّ لبلديّةِ صيدا، “استمعَ المجتمعونَ من إدارةِ المعملِ على مراحلِ تنفيذِ خطةِ التطوير”. لكنّ هذه ليستِ المرّةَ الأولى، وبالتأكيدِ لن تكونَ الأخيرة، التي يجدُ فيها أعضاءُ المجلسِ البلديِّ أنفسَهم في موقفِ المستمعِ لمثلِ هذه “المحاضرات”.

يستمرُّ المجلسُ البلديُّ في مطالبِه المشروعة: جداولُ زمنيّةٌ واضحةٌ لحالةِ المعملِ وتشغيلُه بالقدرةِ الاستيعابيّةِ الكاملة، وخطةٌ محدّدةٌ لإزالةِ جبلِ النفاياتِ المتراكم، وتقاريرُ دوريّةٌ خاضعةٌ للرقابةِ والمساءلة. مطالبُ منطقيّةٌ وضروريّة، لكنها تبدو وكأنّها تصطدمُ بجدارٍ من المماطلةِ والوعودِ الفارغة.

هذا الواقعُ يضعُنا أمامَ تفسيرَين لا ثالثَ لهما: إمّا أنّنا نتعاملُ مع أضغاثِ أحلامٍ من ذوي النيّاتِ الحسنةِ الذين يؤمنونَ بإمكانيّةِ التغييرِ رغمَ كلِّ الإخفاقاتِ السابقة، أو أنّنا أمامَ سياسةٍ محكمةٍ لكسبِ الوقتِ تُخفي وراءَها نهبًا منظّمًا للمالِ العامِّ من قِبَلِ ذوي النيّاتِ السيّئة.

عامانِ من التوقّفِ وخططٌ لم تُنفّذ

تكشفُ الأرقامُ والوقائعُ عن حجمِ الأزمةِ الحقيقيّ. فمنذُ بدايةِ العامِ 2024، وبعدَ توقّفِ المعملِ عن المعالجةِ لمدةِ عامَينِ كاملَين – كما أقرَّ مديرُه العامُّ نفسُه – نشهدُ تتابعًا لخططِ التطويرِ التي لم تُنفّذ بالكامل. والأخطرُ من ذلك أنَّ إدارةَ المعملِ تواصلُ قبضَ الأموالِ العامّةِ دونَ القيامِ بأيِّ عملٍ فعليّ، باستثناءِ نشاطٍ واحدٍ تبرعَت فيه: بناءُ جبالِ نفاياتٍ جديدةٍ تُضافُ إلى المشهدِ البيئيِّ المأساويِّ في المدينة.

هذا الواقعُ المريرُ يطرحُ أسئلةً صعبةً حولَ المساءلةِ والشفافيّةِ في استخدامِ المالِ العام، خاصّةً في ظلِّ استمرارِ تدفّقِ الأموالِ إلى جهةٍ لا تُقدّمُ الخدمةَ المطلوبةَ منها، بل تُساهمُ في تفاقمِ المشكلةِ التي من المُفترَضِ أن تحلَّها.

يكشفُ تصريح وزير المالية عن وجودِ ضغوطٍ سياسية ومحاولاتٍ للحصولِ على أموالٍ إضافيّةٍ، في الوقتِ الذي يُشكّكُ فيه أعلى مسؤولٍ ماليٍّ في البلاد بأداءِ المعملِ نفسِه
يُثيرُ البيانُ الرسميُّ نقطةً مهمّةً غابتْ عن معظمِ المتابعين، وهي طبيعةُ دورِ وزارةِ البيئةِ في مراقبةِ أداءِ المعمل. فرغمَ الإشاراتِ المتكرّرةِ إلى دورِ الوزارةِ في المراقبة، إلا أنّ الحقيقةَ أنَّ دورَها استشاريٌّ محض، يقتصرُ على إعطاءِ الرأيِ والمشورةِ دونَ أيِّ صلاحيّاتٍ تنفيذيّةٍ حقيقيّة. هذا التوضيحُ يكشفُ عن فجوةٍ في المساءلةِ قد تُفسّرُ استمرارَ الوضعِ المتردّي دونَ تدخّلٍ فعّال.

الماليّة وتساؤلاتٌ حولَ الرقابة

في السياقِ ذاتِه، شهدَ تاريخُ 26 تمّوز 2025 اجتماعًا مهمًّا عقدَه اتحادُ بلديّاتِ صيدا – الزهراني مع وزيرِ الماليّةِ ياسين جابر، لبحثِ المستحقّاتِ الماليّةِ للشركةِ المتعهّدةِ جمعَ ونقلَ النفايات NTCC. وبحسبِ البيانِ الصادرِ عن المكتبِ الإعلاميِّ للبلديّة، تطرّقَ الاجتماعُ إلى وضعِ معملِ معالجةِ النفاياتِ وخطةِ التطويرِ المزعومةِ لتحسينِ الأداءِ وإزالةِ جبلِ النفايات.

لكنَّ ما يلفتُ الانتباهَ هو غيابُ أيِّ إشارةٍ إلى دورِ اتحادِ البلديّاتِ في مراقبةِ أعمالِ الشركةِ المتعهّدةِ نفسِها. فأين الرقابةُ على التزامِ NTCC بشروطِ عقدِ التلزيم؟ وأين المتابعةُ لأوقاتِ الجمعِ وطرقِ النقلِ وصيانةِ الشاحناتِ والمعدّات؟ هذا الصمتُ حولَ الرقابةِ على المتعهّدِ يُثيرُ تساؤلاتٍ حولَ شموليّةِ النظرةِ إلى منظومةِ إدارةِ النفاياتِ في المدينة.

موقفٌ حاسم

جاءَ الردُّ الحاسمُ من وزيرِ الماليّةِ ياسين جابر في بيانٍ صادرٍ عن مكتبِه يومَ الثاني من آب 2025، حيثُ نفى بشكلٍ قاطعٍ موافقةَ وزارةِ الماليّةِ على صرفِ أموالٍ لمصلحةِ معملِ النفاياتِ في صيدا. وأكّد البيانُ أنَّ الوزيرَ جابر أبلغَ جميعَ المعنيّينَ في المدينة – من نوّابٍ وفعاليّاتٍ والمجلسِ البلدي – بقرارِه الواضح.

الأمرُ الأكثرُ إثارةً للاهتمام هو إشارةُ الوزيرِ جابر إلى اتصالاتٍ تلقّاها من جهاتٍ في المدينة تطلبُ منه دفعَ مبالغَ ماليّةٍ إلى إدارةِ معملِ المعالجة، مؤكّدًا أنَّ لديه “ملاحظاتٍ عدّةً على أداءِ المعمل”. هذا التصريحُ يكشفُ عن وجودِ ضغوطٍ ماليّةٍ ومحاولاتٍ للحصولِ على أموالٍ إضافيّةٍ، في الوقتِ الذي يُشكّكُ فيه أعلى مسؤولٍ ماليٍّ في البلاد بأداءِ المعملِ نفسِه.

بين النقدِ والإشادةِ المشبوهة

على الرغمِ من كلّ هذه الملاحظاتِ والانتقاداتِ الموثّقة، يبقى الوضعُ في المجلسِ البلديِّ لمدينةِ صيدا مُحيّرًا ومثيرًا للجدل. فعلى الرغمِ من الأدلةِ الدامغةِ على فشلِ إدارةِ المعملِ في تحقيقِ أهدافِها، ما زالَ بعضُ أعضاءِ المجلسِ يُشيد بـ”إيجابيّةِ” إدارةِ المعملِ وما قد تُقدّمه من خدمات.

هذه الإشادةُ، في ظلِّ الواقعِ المريرِ والأرقامِ الصادمة، لا يمكنُ وصفُها إلا بأنّها نوعٌ من “الرُّشى” المعنويّةِ أو الماديّةِ التي تهدفُ إلى تغطيةِ عمليّةِ نهبٍ منظّمةٍ للمالِ العام. فكيفَ يمكنُ الإشادةُ بأداءِ جهةٍ توقّفتْ عن العملِ لعامَينِ كاملَين وتواصلُ قبضَ الأموالِ العامّةِ دونَ مقابل؟

ما هو البديل؟

في خضمِّ هذا الواقعِ المعقّدِ والمُحبِط، قد يسألُ البعضُ بحقّ: “وماذا تريدون؟ وما هو البديل؟” هذا سؤالٌ مشروعٌ ومهمّ، والجوابُ عليه ليس معقّدًا كما قد يبدو للوهلةِ الأولى.

الجوابُ جاهزٌ وواضح: دعونا نستخدمْ عقولَنا ونجدُ البديلَ الذي يُحافظُ على ثلاثةِ عناصرَ أساسيّةٍ لا يمكنُ التفريطُ بها: الصحّةُ العامّة، والبيئةُ السليمة، والمالُ العام. هذه ليستْ مطالبَ مستحيلةً أو خياليّة، بل هي حقوقٌ أساسيّةٌ لكلِّ مواطنٍ في صيدا وحولَها.

البديلُ يبدأُ بالشفافيّةِ الكاملةِ في الأرقامِ والميزانيّات، ويَمرُّ بالمساءلةِ الحقيقيّةِ للمسؤولين، ويَصلُ إلى وضعِ خططٍ واقعيّةٍ قابلةٍ للتنفيذِ والقياس. البديلُ يتطلّبُ أيضًا إشراكًا حقيقيًّا للخبراءِ المستقلّين – محلّيًّا ودوليًّا – في تقييمِ الوضعِ ووضعِ الحلول، بعيدًا عن المصالحِ الضيّقةِ والحساباتِ السياسيّة.

اخترنا لك