من المسؤول عن ارتكاب جريمة الإبادة الجماعيّة في غزّة ؟

بقلم السفير د. هشام حمدان

يقول الكاتب الإسرائيلي دايفيد غروسمان، أنّ ما يجري في غزّة، هو “إبادة جماعيّة”. كثيرون مثله في إسرائيل، الولايات المتّحدة وبقيّة دول العالم، ترى أنّ ما يحدث في غزّة، يرقى فعلا إلى جريمة “إبادة جماعيّة”. ولعلّ قرار المحكمة الجنائيّة الدّوليّة، هو أرفع موقف قضائي قانوني يؤرّخ لما يجري في غزّة كجريمة “إبادة جماعيّة”.

لا أرغب بالتّوقّف عند هذا الوصف، بلّ عند الاتهامات الملحقة بهذا الوصف. فقد ذهبت الاتهامات كلّها تقريبا، نحو إسرائيل. وهذا ما لا نوافق عليه، ولا يمكننا ضميريّا وأخلاقيّا وقانونيّا، أن نوافق عليه. من الواجب النّظر عند الحديث عن هذا الجرم الفظيع، عن الفاعل، لكن ليس من منطلق من يطلق النّار فقط ، بلّ من منطلق من يبعث الدّافع لدى مطلق النّار، ومن يمنحه المبرّر والحجّة؟ إسرائيل ليست نظاما نازيّا عنصريّا كما تصرّ المقاربة الشّعبويّة للأنظمة والأحزاب القوميّة العربيّة الثّوريّة، بلّ هي نظام إيديولوجي قومي . قد لا نتّفق مع الأهداف الصّهيونيّة القوميّة، لكن لا يجب أن نرمي جزافا، اتهامات لها مفاعيل قانونيّة. كيف يمكن توجيه هذا الاتهام ومئات ألوف الفلسطينيّين العرب يعيشون بسلام في إسرائيل ويشاركون في النّظام السّياسي فيها ؟ هل كان ممكنا لليهود أن يعيشوا بسلام في النّظام النّازي ويشاركوا في الحكومة النّازيّة ؟ هذه الاتهامات غير القانونيّة، كانت السّبب الحقيقي في تدمير الحقوق الفلسطينيّة، ولا سيّما حقّهم بدولة مستقلّة أيضا.

يقول المثل العربي الشّهير “ألبادي أظلم”. هذا ليست حكمة تاريخيّة فحسب ، بلّ هي قاعدة قانونيّة أساسيّة في النّظام القانوني سواء الوطني أو الدّولي . ومن هنا، برزت فكرة حقّ الدّفاع عن النّفس. صحيح أنّ هناك خلفيّات متعدّدة لحالة غزّة، أهمّها الظّلم الذي لحق بالفلسطينيّين، لكن ذلك لا يبرّر لأيّ طرف وخاصّة لحماس ومن معها ، تحويل غزّة إلى ساحة قتال. هناك مواثيق دوليّة تتحدّث عن موجبات سلطات الاحتلال وحقوق الشّعوب تحت الاحتلال.

إسرائيل لا تطلق النّار من مجرّد باعث سياسي ، بلّ في إطار حرب عسكريّة جارية فعلا . هناك قوّات حماس ومن معها ومن هم خلفهم، يقيمون حربا، تقول إسرائيل أنّها تطال حقّهم بالوجود. هناك قوى دوليّة ولا سيّما الولايات المتّحدة، توافق على هذا المنظور. تعالوا ننظر معا في موقف حماس ومن خلفها من فكر إخوانيّ إسلاميّ ، بشأن إسرائيل. حماس لا تعترف بإسرائيل، وتقاتل من منطلق إزالة “الدّولة الصّهيونيّة”. وهي وقفت ضدّ السّلطة الفلسطينيّة بعد إقرارها مع توقيع اتفاق أوسلو بالتّخلّي عن مقاومتها العسكريّة، والاعتراف بحقّ إسرائيل بالوجود. هذا الموقف السّياسي لحماس ضدّ الوجود الإسرائيلي، هو الذي يؤطّر عملها العسكري. ومن المضحك المبكي في آن، أنّ من يموّلها، ويسلّحها، ويزوّدها بالدّعم السّياسي، خاصّة تركيّا وقطر، يعترفان بإسرائيل. تركيّا تقيم علاقات دبلوماسيّة معها، بلّ كانت أوّل دولة إسلاميّة تعترف في أربعينيّات القرن الماضي، بها. ثمّ أنّ قطر وهي المموّل الكبير لحماس وموئل محطّة الجزيرة “الصوت الإعلامي للإخوان وحماس”، تقيم علاقات غير خافية مع إسرائيل، وتستضيف أكبر قاعدة أميركيّة في العالم.

بدأت حماس الحرب في ٧ تشرين الأوّل ٢٠٢٣ عندما قامت بعمليّة “طوفان الأقصى”. لا نعتقد أنّ حماس ومن معها وخلفها، كان لديهم أفقا سياسيّا محدّدا لهذه العمليّة. من السّخف الاعتقاد أنّ تلك المعركة، كانت تهدف إلى تحرير الأقصى والقدس. إيران أكّدت فور العمليّة، أنّها لم تكن على علم بها. ولكنّها رغم ذلك، أطفلت عبر حزبها في لبنان (حزب الله)، ما سمّي بحرب إسناد غزّة. فشلت حماس. لكنّها لم تعترف بفشلها، وقرّرت خوض الحرب محتفظة برهائن إسرائيليّة معظمهم من المدنيّين، ومستفيدة من وجودها بين المدنيّين الفلسطينيّين.

هذه الحرب، مهما تكن أسبابها، أنتجت دمارا وأوقعت ألوف الضّحايا المدنيّة. هذا هو الحال دائما في كلّ حرب مشابهة. هذا ما حدث في كلّ الحروب عبر التّاريخ. كنت ممثّلا للبنان في الأمم المتّحدة عندما قصفت إسرائيل مقرّ قوّات الطّوارئ الدّوليّة في قانا في جنوب لبنان، وأحدثت مجزرة بين المدنيّين. دار جدل واسع بهذا الصّدد في حينه. ادعت إسرائيل ومن يدعمها، أنّها قصفت ذلك المكان لأنّ مسلّحي حزب الله أطلقوا النّار من هناك. لم يتمّ تبنّي أيّ اتّهام عشوائي، بلّ طلب المجتمع الدّولي تحقيقا محايدا، أمكن بعده توجيه إتّهام ثابت ضدّ إسرائيل. ما يجري في غزّة ، يخرج في الواقع، عن أيّ منطق قانوني. حماس ومن معها، ليس لهم الحقّ بتحويل المدنيّين في غزّة إلى متراس تحت عنوان ما يسمّونه “مقاومة”. كما أنّ إسرائيل ليس لها الحقّ بممارسة فعل الرّد بهذه الطّريقة العشوائيّة.

موقفنا هذا، ينسجم مع موقفنا إزاء كلّ ما قلناه وما قاله الآخرون عن “المقاومة” في لبنان. نحن لا نميّز بين ما يجري في غزّة، وما جرى في لبنان بشكل عامّ، وفي جنوبه بشكل خاصّ. عندما تتحوّل ما يسمّى “مقاومة” إلى قوّة تملك سلاحا ومخازن أسلحة، ومقاتلين نظاميّين، ومقرّات عسكريّة، وهيكلا تنظيميّا متكاملا، ومصانع لصنع السّلاح واستيراده وتحزينه، تصبح جيشا يخضع لقانون الحرب في القانون الدّولي. وأهمّ هذه المصطلحات القانونيّة، هي عدم عسكرة المواقع المدنيّة، أو إطلاق النّار من بين البيوت السّكنيّة، أو إطلاق النّار على المدنيّين، أو تجنيد أطفال تحت الثّامنة عشر من العمر. واقع حماس كسلطة قائمة على غزّة، يجعل من قوّاتها بمثابة جيش نظاميّ يخضع لنظام القانون الدّولي في حالة الحرب. نعم، ما يجري في غزّة هو جزء من سيرك سياسي بأدوات عسكريّة على حساب دم المدنيّين الأبرياء. والمخيف أكثر من كلّ شيء، أنّ الدّين هو الغطاء الذي يستخدمه المتقاتلون، ومن يدعمهم، لتبرير هذه المآسي والمجازر الموصوفة قانونا، بإبادة جماعيّة.

انطلاقا ممّا سبق، نحن نعتبر أنّ حماس ومن معها ومن خلفها، شركاء في جرائم الحرب، والجّرائم ضدّ الإنسانيّة الجارية في غزّة والتي يرى المجتمع الدّولي أنّها ترقى إلى جريمة الإبادة الجماعيّة. لا تفسير آخر لما يحصل من قتل للمدنيّين.

اخترنا لك