٤ آب… كتب بالدم والحقيقة دفنت في دهاليز السياسة

بقلم رمال أبي يونس

في الرابع من آب 2020، لم ينفجر مرفأ بيروت فقط، بل انفجر البلد بأكمله حيث رسمت الدماء على جدران شوارع بيروت رسومات حزينة ووجوه كئيبة لا تشبهها ولا يمكن لأحد منا ان ينساها.

لقد انفجر صمتنا، انفجر وجعنا، وانفجر يقيننا بأننا نعيش في وطن صار مجرد “تابوت موت مؤجل”، تحكمه اياد عصابات سياسية تسمح بتخزين نترات الأمونيوم كما تخزّن أحقادها، وتحرس الفساد كما تحرس مصالحها الشخصية وتعتبرها أهم من المصلحة العليا أي مصلحة البلد.

الانفجار لم يكن حادثاً عرضياً بل كان رسالة، رسالة مدوية كتبتها السلطة بخط النار والدم، مفادها انتم رخيصون، أرواحكم لا تساوي شيئاً، وأن بيروت الجميلة يمكن أن تتحوّل إلى مدينة منكوبة في ثانية، ثم نكمل حياتنا وكأن شيئاً لم يكن.

تحقيق تحت سقف العدالة ولكن العدالة بلا دولة، فالدولة هي قرار والقرار لا يأتي من فراغ وعلى من يدير شؤون هذه الدولة ومن المفترض أن يحمل هم وشجون مواطنيها ان يكون قائدا حكيما ولكن لدينا الحكيم أنما القائد فقد رحل الى منزله وكأن لا شيء مهم قد حصل في عهده.

فحين تسلّم القاضي طارق البيطار ملف التحقيق، كان اللبنانيون يعلّقون عليه آمالهم الأخيرة، بدأ البيطار بجديّة نادرة في هذا البلد، ووجّه مذكرات استدعاء لمسؤولين سياسيين وأمنيين وقضاة ووزراء سابقون، لكنه ما لبث أن اصطدم بجدار الحصانات، وكل من طُلب استجوابه احتمى بطائفته أو بحزبه أو بمنصبه، وبدلاً من أن يكون القاضي مدعوماً من الدولة، أصبحت الدولة كلها متّهمة بإجهاض العدالة.

وهنا تأخذني الحيرة في بحر التفكير والتحليل لأسأل.. لماذا رفعت الحصانات عن الوزراء بوشكيان وسلام المتهمان بملفات هدر وفساد واختلاس وأحيل ثلاثة وزراء سابقين إلى لجنة التحقيق البرلمانية والتي تعتبر هذه الملفات أقل وطأة من ملف انفجار المرفأ ولم ترفع الحصانات عن كل من وجهت لهم أصابع الاتهام في ملف انفجار المرفأ؟ اليس هناك من مسؤول يجب عليه ان يحاسب ؟ ام ان ما حصل هو جرم لا يعاقب عليه قانون الدولة التي لطالما لم يؤمنوا بها بل استغلوها وسرقوها ودمروا كل مقوماتها وآمنو بأحزابهم وطوائفهم ومراجعهم الخاصة.

فالقاضي البيطار كان قد قدم رؤيته القانونية، وواجه عشرات دعاوى “الردّ” التي قدّمتها الأطراف السياسية لتعطيل عمله، توقف التحقيق لأشهر طويلة بفعل الضغط، التهديد، والدعاوى الكيدية وكلما اقترب من الحقيقة، اقترب الخطر منه شخصياً.

وفي لحظة ما، عُزل التحقيق… وتحوّل البيطار إلى سجين صمته، ممنوع من اتخاذ أي إجراء، بينما المتهمون أحرار، يشاركون في الحكم، ويظهرون على الشاشات وبعين وقحة يحاضرون ويسترسلون ويعيشون حياة حرة طليقة على حساب من فقد وخسر ومات ومن سجنت أمالهم في العدالة على قوس محكمة التاريخ.

إلى أين؟

منذ أكثر من خمس سنوات، والدم على الإسفلت لم يجفّ، والعدالة مجمّدة، والملف القضائي مختطف من قوى تخاف الحقيقة وأهالي الضحايا باتوا منسيين في عزّ المطالبة بحقوقهم، وكأنهم يطالبون بأمر مستحيل. وحدها بيروت ما زالت تئنّ وكلما نظرت الى جدرانها لرأيت صور وجوه تدمع ووحده المرفأ يحفظ صوت الانفجار الذي جُرّدت منه ذاكرة العز والازدهار.

فإلى أين يمكن أن نذهب أكثر من ذلك؟

هل هناك قاع أعمق من أن يعيش المواطن في بلد لا يعرف إن كان سيموت بانفجار، أو بانهيار، أو بجرة قلم من مسؤول فاسد؟

فما يحصل في لبنان ليس مجرد فساد بل هو إبادة منظمة للعدالة، واغتيال ممنهج للذاكرة، وخيانة موصوفة للوطن، لكننا لن ننسى وسنظل نقاوم لأنه ما مات حق وراءه مطالب وبيروت لن تنسى وأهالي الضحايا لن يسامحوا.

والقاضي طارق البيطار، رغم العرقلة والتضييق ومحاربته سياسيا لا يزال رمزاً لعدالة مشعورة… لكنها لم تنكسر بعد ومن يعتقد أنه سيتراجع أم سيقال من منصبه فهو مخطئ تماما وقد شهدت التشكيلات القضائية مؤخرا على تثبيت يده على ملف المرفأ اكثر ونتمنى ان تكون هذه الخطوة الأولى على درب الحق وكشف الحقيقة.

ففي كل 4 آب، سنبقى نذكّر أن بيروت لم تمت ولن تموت… بل أنتم من ماتت ضمائركم وأصبحتم جثث حيّة.

والرحمة والخلود لشهداء المرفأ الأبرار…

اخترنا لك