بقلم زكي طه
لا تُقرأ أزمات البلد والتحديات الخطيرة التي يواجهها الآن إلا بالعلاقة مع اللحظة الاقليمية والدولية الراهنة التي تتقاطع فيها الضغوط الخارجية والتهديدات بالتخلي عن لبنان وتركه فريسة العدوان الاسرائيلي، مع التأزم الداخلي بكل ما ينطوي عليه من انسداد أفق واحتمالات انفجار الصراع بين قواه. والصلة مع كل ما تراكم طوال العقود السابقة من نتائج أدت بمجملها إلى انهيار الدولة ومؤسساتها، وإلى انكشاف البلد في ظل عجز العهود والحكومات السابقة عن معالجة معضلاته الموروثة، وفي مقدمها معضلة سلاح حزب الله على النحو الذي يحمي البلد من التصدع والانفجار.
السلاح والسلطة: استعصاء قديم ومتجدد
بدأ الأمر مع اتفاق الطائف الذي شرَّع سلاح المقاومة في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي. وتكرس في أعقاب عدوان 1993، عندما جرى تعطيل قرار إرسال الجيش إلى الجنوب. واستمر بعد الانسحاب الاسرائيلي العام 2000 من خلال استغلال شعار المقاومة وسلاحها في الداخل لتثبيت دور حزب الله في السلطة وتكريس وصاية النظام السوري على لبنان. لاحقاً شرعت البيانات الوزارية سلاح الحزب عبر معادلة “الجيش والشعب والمقاومة”، وأصبح عاملاُ مقرراً في استحقاقات الرئاسة وتشكيل الحكومات. واصبح سلاحاً إقليماً مع الانقلاب على مقررات الحوار الوطني في بعبداً عام 2013، ومشاركة الحزب في الحرب السورية.
ومع التسوية التي فرضت ميشال عون رئيساً، أمكن للحزب أن يتحكم بقرارات مؤسسات الدولة وميادين السياسة الداخلية والخارجية وفي القضاء. وصولاً إلى الحؤول دون إقرار الاصلاحات المطلوبة كشرط لدعم لبنان وفق مقررات مؤتمر باريس. ومع انتفاضة الشعب اللبناني وجه الطبقة السياسية المتسلطة ، اصبح الحزب أداة القمع الميليشياوية الرئيسية لها عبر تنظيم الهجمات على ساحاتها. قبل أن يساهم مع رئيس الجمهورية وتياره السياسي في إخراج زعيم تيار المستقبل من السلطة للمرة الثانية. وعند نهاية عهد ميشال عون، تحكّم الحزب بالاستحقاق الرئاسي عبر معادلة رئاسة سليمان فرنجية أو لا رئاسة للجمهورية. ما ادى إلى تعميق الانهيار الاقتصادي والمالي وتزخيم الانقسام الاهلي. واصبح لبنان في عزلة خانقة عربياً ودولياً، وتحول مرتعاً للنفوذ الايراني بقوة سلاح الحزب، وعبر مصادرة قرار السلم والحرب وإدخال لبنان في معركة مساندة غزة، التي انتهت بنتائج كارثية اصابت لبنان والحزب في آن.
الدولة في مرمى التهويل… وفي موقع الضعف
مع تلك النتائج بات لبنان مكشوفاً كما هو الحال بالنسبة للحزب. ما قاد البلد إلى المأزق الراهن المتعدد الأوجه. والذي تستحيل قراءته بعيداً عن رفض حزب الله تنفيذ بنود اتفاق وقف اطلاق النار مع اسرائيل، الذي تبلغت الدولة اللبنانية مضمونه بعد تفرّد رئيس مجلس النواب وحزب الله بصياغة تفاصيله عبر الموفد الاميركي. والتعثر مرده أيضاً رفض اسرائيل الانسحاب من المواقع التي تحتلها، ووقف اعتداءاتها على لبنان وانهاء سيطرتها الجوية على سمائه. وذريعتها عجز الدولة اللبنانية عن الالتزام بتنفيذ تعهداتها بحصر وجود السلاح بيد الدولة الشرعية ومؤسساتها الأمنية.
إن معادلة الاسباب والذرائع ليست بالأمر الجديد بين لبنان واسرائيل. وبعيداً عن استهانة البعض بالمخاطر العدوانية الاسرائيلية. خاصة في أعقاب التحرير عام 2000، واستمرار الحزب رفع راية المقاومة والاحتفاظ بسلاحها. والتأزم الراهن مصدره تبدل موازين القوى الدولي ـ الاقليمي والداخلي في ضوء نتائج الحرب الاسرائيلية المفتوحة على كل الجبهات. وأساسه التحدي الذي يواجه الدولة اللبنانية لناحية قدرتها على مغادرة دور الوسيط بين الحزب والخارج وعدم الاكتفاء بتلقي النتائج وإغاثة متضرري الحرب.
والسبب المباشر للتأزم مرده طُرح قضية سلاح الحزب بشكل رسمي على طاولة الحكومة، في محاولة لتجاوز الطرح المبدئي بشأن حصرية السلاح، الذي لم يترافق مع خطة أو جدول زمني لنفاذه. هذا الأمر لم يحصل منذ نهاية الحرب الأهلية. وهو لم يكن مبادرة طوعية من العهد والحكومة استناداً إلى المصلحة الوطنية، بل أتى نتيجة تصاعد الضغوط الخارجية وخاصة الاميركية، وجراء تزايد المطالبة بمعالجة معضلة السلاح، والخروج من دائرة التمييع والارتباك والمماطلة، بشأن تنفيذ التزامات خطاب القسم والبيان الوزاري، في ظل احتدام الانقسام والسجال الداخلي بين قوى السلطة كل من موقعها الفئوية. بين من يطالب بتسليم أو نزع السلاح لتعزيز موقعه ودوره كما حال القوات اللبنانية. وبين من يرفض الاستجابة للحؤول دون النيل من مكاسبه التي انتزعها بقوة السلاح كما هو حال حزب الله والثنائي الشيعي. ما يعني أن الدولة لم تصبح الطرف المتحكم بإدارة شؤون الحكم والبلاد. من ناحية تتذرع برفض اسرائيل الانسحاب ووقف الاعتداءات، وتطالب بتنفيذ الاتفاق المتعلق بوقف الحرب معها. ومن ناحية أخرى تتمهّل في التعامل مع قرار الحزب الذي يرفض تسليم السلاح. وهو الأداء الذي يبرّز التحديات العميقة، التي تواجه لبنان والحكم رئاسة وحكومة، خصوصاً في ظل تراجع الحضور الدولي، ورفض تقديم أي مساعدات ملموسة، بانتظار أن يبلور لبنان خطة واضحة وجدولاً زمنياً يربط بناء الدولة بحل معضلة السلاح.
حزب الله بين ايران واهداف اسرائيل
مع نتائج الحرب الاسرائيلية، تهاوي مقولات الحزب حول التوازن الاستراتيجي وحماية لبنان واسناد غزة. وعجزه عن إخفاء حقيقة فقدان القدرة على استخدام ما تبقى له من سلاح في مواجهة اسرائيل التي لم توقف اعتداءاتها اليومية.. والأخطر على هذا الصعيد الهروب من مراجعة سردياته وتجربته. نحو البحث عن وظائف جديدة ـ قديمة للسلاح. واعتباره ضمانة وجود ودور الحزب والثنائي الشيعي. والهدف الاستئثار بموقع الطائفة في السلطة وعلى ذلك شواهد أهمها انتخابات البلدية. وعليه تجدد التلويح باستخدام فائض القوة لترهيب اللبنانيين والتهديد بتكرار سيناريو 7 أيار ضد الدولة وصولاً إلى التشكيك بدور وقدرة الجيش الوطني.
إن أولوية الحزب تكمن في خشيته من نتائج اختلال ميزان القوى الداخلي والاقليمي. والاطاحة بما حققه من مكاسب سلطوية في ظل توازنات لم تعد قائمة. ولذلك يرفض تسليم السلاح الذي يرى فيه ضمانه لدى شركائه في السلطة، الذين تضرروا من وجوده ودوره فيها. وهو لا يستثني في هذا المجال حركة أمل، التي كان تأسيسه انشقاقاً عنها قبل التعامل معها ملحقاً به. وما يعزز تلك الاولوية الحصار المالي، والعجز عن استخدام السلاح حتى في الداخل، لأنه سيكون في مواجهة الجيش وليس أي طرف آخر. علماً أن قيادة الحزب تدرك جيداً أن الضمانة لن تأتي إلا من الولايات المتحدة التي يأمل بأن تقّر بدوره الداخلي وفق شروطها.
لقد كان ولا يزال من الاوهام القول بنهاية حزب الله أو بسقوطه بالضربة القاضية أمام اسرائيل أو امام خصومه وشركائه من قوى السلطة. ورغم الخسائر الباهظة التي فرضت عليه سواء في حربه او عبر مشاركته في الحرب السورية، أو الحرب الاسرائيلية عليه وعلى البلد. لكنه لم يزل يملك القدرة على الصمود وعلى رفض تسليم أوراقه لاحزاب الطوائف الاخرى التي تشكل ردائف له، لأن معادلة العلاقات بينها تحكمها وتتحكم بها توازنات طوائفية تظللها مصالح وايديولوجيا لا يمكن الاستهانة بها، كيف والحال إذا كانت البدائل الوطنية والديمقراطية هوامش غير مؤثرة أو فاعلة.
ومن العبث راهناً فصل موقف الحزب عن استراتيجيا ايران وقرارها، وهي تفاوض الولايات المتحدة على أكثر من جبهة. ولبنان بالنسبة لها ورقة ضغط ومقايضة، وسلاح الحزب ضمانة دفاعية عنها، وأداة تمكين سياسي إقليمي. في المقابل ورغم مواقف اسرائيل المتشددة حيال الحزب، لكنها لا تعارض فعلياً بقاء الستاتيكو الحالي. فالرؤية الإسرائيلية الرسمية تكاد تتقاطع مع سردية الحزب عن دور الدولة الضعيفة العاجزة. وهي لا تريد دولة لبنانية قوية أو مجتمعاً لبنانياً موحداً، بل تفضّل بلداً مفككاً، منقسماً على ذاته، لا دور اقتصادياً له ولا فعالية سياسية. ولذلك فإنّ الاعتقاد بأن إسرائيل قد تقوم بنزع سلاح الحزب بديلًا عن الدول لأنها عاجزة، هو وهم سياسي. لأن مصلحتها استغلال ذرائع الوضع الراهن لتكريس احتلالها وتحقيق أهدافها لها، واهمها بقاء البلد على ما هو فيه، وشريط حدودي آمن منزوع السلاح والسكان، دون إغفال اطماعها بمياه الليطاني وسواها.
أي مخرج؟ وأية دولة؟
لا مخرج إلا عبر وضع خطة تنفيذية واقعية، واضحة، متدرجة، تقود إلى تسليم السلاح للدولة، لا تسليمه للعدو كما يدعي أمين عام الحزب. خطة تنطلق من حقيقة أنّ الدولة وحدها هي الضمانة، ولا أي شيء آخر. إنّ حصرية السلاح ليست مطلباً تقنياً، بل جوهر العقد الوطني الجديد، الذي لن يتحقق من دون التمسك بالسيادة، لا كشعار، بل كممارسة فعلية، وعبر إرساء خطة لبناء الدولة، تُقنع المجتمع الدولي، وتكسب ثقة الداخل. خطة تحاصر الحزب بهدوء، وتنهي ذرائع الانكار والتهويل. وهذا لن يحصل من خلال القبول أو التسليم بالعجز والانكفاء ، إنما عبر تجاوز لحظة الإنكار، ووقف المعاندة الانتحارية، والتخلي عن اوهام استعادة هيمنات غابرة وملاقاة اللحظة التاريخية بمسؤولية وطنية.
إن أكثرية اللبنانيين يريدون دولة، وهم ينتظرون إعلاناً واضحاً وخارطة طريق قابلة للتنفيذ، تضع لبنان على سكة النهوض، بديلاً عن الانصياع لمعادلات الأمر الواقع في الداخل ومع الخارج. ومصير اللبنانيين وبلدهم على المحك، لأن سياسات التريث والتمهل هي وصفة مؤكدة لعزلة البلد، وللخراب والانهيار.