حين انفجر القلب قبل أن ينفجر المرفأ

"شهادة حية"

كتبت كوثر شيا

بوابة بيروت تنشر مشروع ذاكرة، رغم مرور خمس سنوات على جريمة تفجير مرفأ بيروت في ٤ آب ٢٠٢٠

في الرابع من آب 2020، الساعة 6:08 مساءً، لم ينفجر مرفأ بيروت فقط…
انفجر قلب لبنان.
انفجر الفساد، وانكشفت الحقيقة العارية: نحن لسنا آمنين في وطننا.

كنت في ساحة الشهداء.
كنت أتنفّس ذلك الهواء الثقيل، كأن شيئًا ما على وشك الانهيار.
لم أكن أعلم أنني على بُعد ربع ساعة من أكبر جريمة سلمية في العصر الحديث.
في تمام 5:45 مساءً، غادرت باتجاه عيادتي في فرن الشباك.
القدر أنقذني من الموت… لكنه لم ينقذني من الوجع.

6:08 – لحظة كُسرت فيها كل مرايا الوطن

الدويّ الأول… كأنه شقّ في بطن المدينة.
الدويّ الثاني… وحش. إعصار من نار. قنبلة في وجه الحياة.
صوت هائل لا يُحتمل. هواء ملوّث بالغضب. ضغط يخلع الأرواح من الجسد.
رأيت سيارات تطير.
نوافذ تتفجّر.
نساء يصرخن.
رجال يبكون.
أطفال يمشون حفاة على الزجاج.

بيروت انكشفت، كأنها صاعقة، إعصار او زلزال.

مشهد لم يكتب في الكتب، بل على الأجساد

رأيتُ بيوتًا انكشفت عظامها كجثث مشرّحة.
رأيتُ وجوهًا مكسوّة بالغبار والدم، تمشي كأشباح بين الصمت والصدمة.
مستشفيات تحوّلت إلى نقاط نزيف جماعي.
أطباء يعالجون الجرحى على الأرصفة.
“إلى أين!؟… مش ناقصين بعد!”
قالها الكثيرون تائهون يريدون ان يعيشوا بسلام!؟؟
كنت شاهدة.
كنت واحدة من آلاف من عادوا إلى الشارع ليضمدوا بيروت باليدين والدموع.

صحيح لم أفقد الامل أو امان بمدينتي… فقدت ابن عيلتي، جواد شيا

المعاون أول جواد شيا، كان يخدم في المرفأ.
كان يؤدي واجبه العسكري بشرف.
لكن الدولة لم تؤدِّ واجبها تجاهه.
لم يمت فقط في الانفجار… مات في صمت الدولة الفاسدة.

خمس سنوات بعد الجريمة: لم نحصل على الحقيقة، بل على لافتة

في تموز 2025،
سمّت الحكومة شارعًا قرب المرفأ: “شارع ضحايا 4 آب.”
كأنهم يريدون منّا أن نقتنع بأن اسمًا على لوحة يعوّض دمار مدينة.

لكن الحقيقة واضحة:

ماذا نال الضحايا؟
218 قبرًا بلا عدالة
آلاف جرحى بلا علاج
50 ألف بيت مدمّر في بيروت

ماذا نال الفاسدون؟
مليارات بالدولار
صفقات إعمار فاسدة
جديدة للناهبين

هذه ليست ذكرى… هذه جريمة مُعلّقة في الهواء، والهواء ملوث بالسكوت.

العدالة؟ مُستهدفة
   •   القاضي طارق البيطار، الشجاع الوحيد، وُضع تحت التهديد.
   •   التحقيق القضائي معلّق في زنزانة السياسيين.
   •   المسؤولون محميّون بـ ”حصانات”،
   •   والناس؟ مكشوفون كزجاج بيروت المكسّر.

نحن لا نريد شوارع بأسمائنا… نريد محاكمات بأسماء قاتلينا
   •   نريد معرفة من استورد نترات الأمونيوم،
   •   من خزنها،
   •   من تجاهل التحذيرات،
   •   من حمى الجريمة عدة سنوات.

نريد:
1. محكمة دولية مستقلة.
2. إسقاط الحصانات فورًا.
3. تعويضات مباشرة للضحايا، لا تمر عبر سماسرة السياسة.
4. إعادة إعمار بيروت بكرامة، لا بأموال مُبيّضة.

رسالتي إلى لبنان… وإلى العالم

أنا التي نجوت من 6:08، لكنّي لم أُشفَ.
أنا التي ما زلت أسمع الصوت كل ليلة،
وأشعر بالاهتزاز في قدمي كلما مررت قرب المرفأ. الدمعة في عيني على عاصمتنا التي تدمرت!!!!

رأيت بيروت تُغتصب مرّتين:
مرّة بالانفجار، ومرّة بنهب الحقيقة.

وأقسم بدم جواد، ودماء الشهداء:
   •   لن ننسى.
   •   لن نسكت.
   •   لن نُسامح.
   •   ولن نكتفي بلوحة على حائط!

بيروت تستحق أكثر من الرثاء… تستحق الحقيقة.

واليوم، بعد خمس سنوات على الانفجار، يسير أهالي الضحايا من جديد نحو المرفأ، يحملون صور أحبائهم، ووجوههم تزداد شحوبًا كل سنة…
يمشون ليس فقط للذكرى، بل لأن العدالة لم تمشِ خطوة واحدة نحوهم.

في هذا العام، انضمّ إليهم عدد من النواب والوزراء،
يشاركونهم المسيرة، ويطلقون وعودًا باستئناف التحقيق،
وإعادة الملف إلى مساره القضائي العادل.

ننظر إلى هذه المشاركة بحذر، ولكن أيضًا بأمل…
أملٌ بأن تكون هذه الحكومة بداية لعهد جديد،
عهد لا يساوم على الحقيقة، ولا يختبئ خلف الحصانات.
عهد يعيد الهيبة للقضاء،
ويضع المجرمين في قفص الاتهام، لا في مقاعد السلطة.

بيروت لا تنتظر الشفقة… بل تنتظر قضاءً يُعيد الكرامة لشهدائها في جريمة العصر.
وكل ما نرجوه من هذا العهد الجديد أن يبرهن أن دماء 4 آب لم تُسفك عبثًا،
وأن هذه الجريمة لن تُقفل “بشارع تذكاري”،
بل بمحكمة عادلة، وقرارات شجاعة، وقلب حيّ لا يخون.
“شعب وجيش وقضاء”

اخترنا لك