سقوط الأسد… ولادة سوريا الجديدة : نهاية الطغيان وبداية دولة العدالة والكرامة
لحظة سقوط الطغيان ليست لحظة عادية
بقلم د. عبد العزيز طارقجي
الم يكن سقوط نظام الأسد حدثًا عابرًا في دفتر الثورات، بل لحظة مفصلية في التاريخ السوري والعربي. بعد أكثر من نصف قرن من القبضة الأمنية التي خنقت البلاد، انهار نظام آل الأسد تحت ثقل جرائمه، ليطوي السوريون واحدة من أحلك صفحات الاستبداد المعاصر. في سوريا ما بعد الأسد، لا يعود الناس فقط إلى حياتهم، بل يعيدون تعريف معنى الوطن، بعدما نُهبت الكرامة، واحتُكر القرار، وغرقت البلاد في دماء أبنائها لعقود من الزمن. إنها بداية التحرير الحقيقي… لا من طاغية فحسب، بل من ثقافة الخوف والتوريث والعسف.
من حافظ إلى بشار، خمسة عقود من القمع والدم
منذ أن قفز حافظ الأسد إلى سدة الحكم في انقلاب عام 1970، دخلت سوريا نفقًا مظلمًا من القمع المنهجي، حيث تحولت الدولة إلى مزرعة خاصة تحكمها العائلة بالحديد والنار، وامتد هذا الاستبداد ليصبح وراثيًا مع تسلم بشار الأسد السلطة عام 2000 بعد تعديل الدستور في بضع دقائق، لتبدأ مرحلة أكثر خطورة في بنية الاستبداد والفساد، حوّل فيها نجل الطبيب البلاد إلى حقل تجارب للقتل الجماعي والتجويع والكبت والإبادة.
الثورة السورية، بين نار البراميل وحصار الكيماوي
السنوات التي تلت الثورة السورية عام 2011 كانت الأكثر دموية في تاريخ البلاد، حيث واجه السوريون، بصدورهم العارية، واحدة من أعتى آلات القتل في العصر الحديث. استخدم النظام كافة أدوات الإبادة: من البراميل المتفجرة إلى الكيماوي، ومن سياسة الحصار والتجويع إلى الاعتقال والاختفاء القسري. ولتكتمل فصول الجريمة، أدخل حلفاءه من إيران وميليشياتها الطائفية ليقاتلوا بالوكالة عن الأسد، فمزقوا النسيج السوري وأغرقوا الأرض بدماء الأبرياء.
سوريا الكبتاغون، النظام وتجارة الجريمة العابرة للحدود
لم يكتفِ نظام الأسد بقتل شعبه، بل صدّر الموت إلى دول الجوار والعالم بأسره. ففي عهد بشار، تحولت سوريا إلى مركز إقليمي لإنتاج وتجارة المخدرات، وعلى رأسها “الكبتاغون” الذي أصبح علامة فارقة في جرائم النظام. بالتعاون مع شبكات عائلية وأمنية، استُخدمت الموانئ والمطارات في تهريب المخدرات إلى الخليج وأوروبا وإفريقيا، في مشهد يجعل من النظام ليس فقط مجرم حرب، بل زعيم كارتل دولي.
العقوبات الدولية، الشعب يُعاقب… والنظام يُراكم الثروات
رغم فرض العديد من العقوبات الدولية على النظام السوري منذ 2011، إلا أن كثيرًا منها انعكس على الشعب بدلًا من أن يُطبق بحزم على رموز السلطة والثروة. لقد استغل الأسد هذه العقوبات لتبرير المزيد من القمع، وخلق طبقة اقتصادية طفيلية حوله تحوّلت إلى تجّار حروب، فيما تهاوت الطبقة الوسطى وتضاعفت نسب الفقر والبطالة.
لا نهضة دون عدالة… ولا عدالة بلا محاسبة
تحرير سوريا من حكم آل الأسد لا يعني فقط سقوط رأس النظام، بل هو لحظة تاريخية يجب أن تتحقق فيها العدالة. فلا سلام حقيقي بدون محاسبة كل من تورط في القتل والتعذيب والتهجير، من قيادات الأجهزة الأمنية إلى الوزراء وضباط المخابرات وقادة الميليشيات، وصولًا إلى كل حزب قاتل إلى جانب النظام ضد إرادة الشعب.
إن حلّ تلك الأحزاب والمليشيات – كالبعث، والدفاع الوطني، وغيرها من أدوات القمع – يجب أن يكون بندًا أساسيًا في أي مرحلة انتقالية. كما يجب ألا يُسمح بعودة أي من أركان المنظومة الأمنية إلى مواقع السلطة تحت أي غطاء.
الثورة ليست طائفية… وسوريا تستحق التحرر من الوصاية الإيرانية
الثورة السورية لم تكن انقلابًا طائفيًا كما روّج النظام، بل كانت صرخة وطنية شاملة من درعا إلى دير الزور، ومن حمص إلى القامشلي، ومن حلب إلى دمشق. سورية الجديدة قادرة على إعادة بناء نفسها، لكنها ما تزال مكبّلة بالتدخلات الخارجية، وعلى رأسها إيران، التي أغرقت الأرض السورية بالميليشيات، والأفكار المذهبية، والخنادق.
الخلاص من هذه الوصاية ضرورة وجودية لسوريا المستقبل. لا تنمية ولا سلام ولا إصلاح حقيقي في ظل ميليشيات عابرة للحدود تعبث بمصير البلاد.
السعودية والخليج… شراكة في احتضان سوريا ونهضتها
وسط الانهيار الكبير الذي خلفه نظام الأسد، لعبت دول الخليج العربي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، دورًا محوريًا في دعم الشعب السوري ومساندة قضيته في المحافل السياسية والإنسانية. لم يكن هذا الدعم وليد اللحظة، بل كان امتدادًا لنهجٍ عربيٍ أصيل يُعلي من قيمة الإنسان، ويدافع عن وحدة سوريا واستقلال قرارها الوطني.
إن الدور الخليجي، والسعودي خصوصًا، لم يقتصر على تقديم المساعدات أو إدانة جرائم النظام، بل شمل أيضًا الدفع نحو إعادة سوريا إلى الحضن العربي في مرحلة ما بعد الأسد، والمساهمة في بلورة رؤية تنموية، تعددية، إنسانية لسوريا المستقبل. وهو موقف يستحق الإشادة والتثمين من كل من آمن بعدالة الثورة السورية.
تكريم الأحرار، من حقهم علينا ألا ننساهم
وفي لحظة مفصلية كهذه، يصبح من الواجب الوطني والأخلاقي للحكومة السورية الجديدة أن لا تنسى أولئك الذين دفعوا أعمارهم، وحرياتهم، وأمنهم ثمناً للكرامة والعدالة. إنّ المدافعين عن حقوق الإنسان، الصحافيين، المحامين، الفنانين، والمفكرين وأصحاب الرأي الحر، الذين ناضلوا لعقود ضد الاستبداد والقمع، يستحقون اليوم أن تُخلّد تضحياتهم لا أن تُنسى. كثيرون منهم قضوا تحت التعذيب، أو عاشوا منفيين ومطاردين، أو اختطفهم الموت وهم يحلمون بسوريا الحرية.
هؤلاء ليسوا فقط شهودًا على المرحلة، بل صانعو ضميرها. لقد وثّقوا الانتهاكات، وأسهموا في رفع الوعي العالمي، وحافظوا على روح الثورة حيّة وسط الظلام. ومن الواجب أن تعمل الدولة الجديدة على تكريمهم رسميًا وشعبيًا، ودمج رؤيتهم في مسارات العدالة والمصالحة، والاعتراف بدورهم كجزء أساسي من ذاكرة التحرير وصناعة المستقبل.
الرسالة الأخيرة، لنتعالى على الجراح من أجل سوريا
في ختام هذا المقال، نوجّه رسالة مفتوحة إلى الحكومة السورية الجديدة وإلى الشعب السوري الكريم: إن التحدي الأكبر بعد التحرير ليس في إسقاط النظام فحسب، بل في النجاح بإرساء مشروع وطني جامع، يعلو فوق الجراح، ويجتث الطائفية والمذهبية، ويُعيد بناء الدولة على أسس المواطنة والعدالة والكرامة.
إن سوريا تستحق أن تكون موحدة، قوية، مستقلة القرار، مصانة السيادة، لا مكان فيها للانتقام، ولا موقع فيها للمليشيات العابرة للحدود.
فليكن شعار المرحلة: “سوريا فوق الجميع، وسورية لكل السوريين”.
وليكن استحقاق العدالة مقدمةً لاستحقاق النهضة.
* صحافي استقصائي وباحث في الانتهاكات الدولية لحقوق الإنسان