بقلم ريشار حرفوش
لم يكن اسم «جادّة حافظ الأسد» يومًا مجرّد تسميةٍ عادية لطريقٍ في العاصمة، بل كان بمثابة الختم الرسمي على مرحلة الوصاية السورية في لبنان. تلك الجادّة التي تقطع طريق مطار بيروت، سُمّيت على اسم رئيس النظام السوري الأسبق في عهد رئيس الجمهورية اللبنانية الياس الهراوي، وكان ذلك تتويجًا لزمنٍ تطابقت فيه حدود النفوذ مع حدود الطاعة، إلى الحدّ الذي باتت فيه الطرقات تُطبع بأسماء قادةٍ غرباء عن الإرادة الشعبية اللبنانية، وقريبين من آلة القمع والاغتيال والهيمنة.
لكن اليوم، في العهد الجديد، تغيّر النهج، بحيث إنه ومن خارج جدول أعمال الجلسة الحكومية الأخيرة، وفي مطلع جلسة الثلثاء الماضي، طرح رئيس الجمهورية بندًا حمل رمزية بالغة: تعديل اسم «جادّة حافظ الأسد» إلى «جادة زياد الرحباني»، تكريمًا للفنان الذي غيّر فينا أكثر ممّا غيّرت أنظمة، واحتجاجًا صامتًا على مرحلة لم يعد للبنان مصلحة في تذكّرها.
إنها الدولة الجديدة، الدولة التي تعود إلى ذاتها، وتحاول، ولو متأخرة، ترميم ذاكرتها المشوّهة، والأهمّ من تغيير الاسم، هو تغيير النهج.
كما قال رئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط» غسان شربل: «كيف يبقى اسم حافظ الأسد على جادّة في بيروت حين تقتلع تماثيله في دمشق؟».
وختم شربل: «حلّ زياد الرحباني مكان حافظ الأسد في تسمية الشارع البيروتي. الأسد كان عازفًا أيضًا، لكن على أوتار الأقليات».
منذ سقوط نظام بشار الأسد منذ أشهر، وسقوط الهيمنة الأسدية المباشرة عن القرار اللبناني، بدأ مسار التفكّك التدريجيّ لتلك البنية العميقة التي تركها النظام السوري خلفه: أسماء في الشوارع، تماثيل، قصور، جداريات، ورموز زُرعت عنوةً في الوجدان الوطني، حتى بات اللبنانيّ يمرّ يوميًا على «جادّة حافظ الأسد»، وكأنّ الاحتلال لم يكن، وكأنّ القمع لم يكن، وكأنّ القتل لم يكن.
اليوم، لم يعُد مستغربًا أن ترتفع الأصوات مطالبةً بالمزيد من الخطوات المماثلة. آن الأوان لإزالة أسماء شوارع ومحاور لا تزال تشكّل استفزازًا صارخًا لذاكرة اللبنانيين، من قبيل «جادة الإمام الخميني»، و «أوتوستراد الرئيس بشار الأسد»، و «جادّة باسل الأسد»، و «طريق قاسم سليماني»… وسواها من التسميات الفاقعة التي كُتبت يومًا بأقلام الأذرع السورية والإيرانية، ولا تزال قائمة في قلب المدن والقرى اللبنانية كندوبٍ مفتوحة في وجه السيادة والكرامة الوطنية.
إنها الطرقات التي تذكّرنا بتلك الحقبة السوداء، حين تحكّم المحور الإيراني – السوري بمفاصل الدولة اللبنانية بأسلوبه الاستخباراتي القمعي، حتى صارت أسماء المدن تُنحت بما يخدم سردية لا تشبهنا، ولا تشبه هذا الوطن.
لكن اليوم، كلّ شيء بات تحت مجهر السلطة اللبنانية الجديدة، التي تحاول استعادة السيادة، لا فقط على الحدود، بل على الذاكرة أيضًا.
ذاكرة اللبنانيين ليست ملكًا لأحد، لا لبشار، لا لحافظ، لا لقصر المهاجرين، لا لفيلق القدس، ولا لأمراء الممانعة.
وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الجلسة الحكومية الأخيرة لم تكن فقط لحظة رمزية أو معنوية. ففي الجلسة نفسها، تمّ الإعلان عن مشروع يُسند إلى الجيش اللبناني مهمّة تسلّم كلّ سلاح غير شرعي في البلاد، على أن تُنجز هذه الخطة التطبيقية لعرضها على مجلس الوزراء وإقرارها في 31 من الشهر الحالي.
وهذا ما يؤكّد أنّ ما يحصل ليس مجرّد رسائل شكليّة، بل هو تحوّل ملموس في مسار الدولة، التي بدأت بمحو كلّ دمارٍ ونهجٍ ومسارٍ خاطئ اعتمد في السابق، لا انطلاقًا فقط من حصرية السلاح، بل وليس انتهاءً بتغيير أسماء الشوارع والجادّات والطرقات.
فليس من السهل أن نبسّط في عقل الإنسان، وفي عقل اللبنانيين تحديدًا، أنّ الزمن تغيّر فعلًا. لكنّ هذه الجلسة أوضحت ذلك بوضوح غير مسبوق: لأن «زمن الأول تحوّل».
من هنا، تأتي هذه الخطوة كمحاولة لمحو رواسب الماضي، لا انتقامًا، بل شفاءً.
وبغضّ النظر عن الجهة الصالحة إداريًا لتعديل أسماء الشوارع والجادّات، سواء أكانت رئاسة الجمهورية أم محافظة بيروت أم وزارة الداخلية، فإنّ جوهر المسألة معنويّ أولًا. وما هو مؤكّد أنّ لرئيس البلاد، بما يمثل دستوريًا ووطنيًا، كامل الصلاحية والرمزية لإعادة تسمية الطرقات والجادّات، بل وحتى المحافظات والبلدات، متى استدعت السيادة والكرامة الوطنية ذلك.
من جهته، اعتبر الصحافي الممانع فيصل عبد الساتر أنّ «قرار تسمية الشوارع هو قرار بلدي بامتياز، وما قرّرته الحكومة اللبنانية اليوم بتغيير اسم جادّة الرئيس حافظ الأسد إلى أي اسم آخر مرفوض جملة وتفصيلًا، لأنه ناتج عن كيديّة سياسية، ولن نقبل بهذا الأمر، وندعو بلدية الغبيري إلى رفضه».
وللوقوف على هذا الموقف، سألنا مصدرًا عن الجهة المخوّلة بتغيير أسماء الشوارع والجادّات، فجاء الجواب على النحو الآتي: «الصلاحية تعود إلى وزير الداخلية، فهو من يتّخذ القرار بعد ورود كتاب من البلدية التي تقترح الاسم، لكنّ تغيير الاسم يتطلّب مرسومًا من مجلس الوزراء».
وردًّا على سؤال حول ما إذا كان الأمر يتعارض مع صلاحيات رئيس الجمهورية، لم يستبعد المصدر ذلك عبر «نداء الوطن»، موضحًا: «من حيث المبدأ، لا علاقة لرئيس الجمهورية باختيار الأسماء، لكن ما حصل في الجلسة الحكومية الأخيرة كان على الشكل الآتي: تمنّى رئيس الجمهورية على وزير الداخلية ووزير الأشغال العامة والنقل خصوصًا أن الطريق تُعدّ دولية لا فرعية، فأتت الموافقة منهما ومن مجلس الوزراء ككل. نعم، يحق لرئيس الجمهورية الاقتراح، على أن يُعرض الموضوع على مجلس الوزراء، وهذا ما حصل فعليًا».
وتابع: «من الطبيعي أن يُؤخذ في الاعتبار رأي كلّ من وزارتي الداخلية والأشغال في هذا الطرح، ولا دور للبلدية في إبداء رأيها في هذا السياق».
أضاف: «تمّ تكليف وزير الداخلية، أحمد الحجار، بإعداد آلية التسمية وإبلاغها إلى البلديّات المعنيّة، والموضوع قانوني وسلك طريقه الإداري، إذ إنّ القرار يعود إلى وزير الداخلية، فيما تقتصر صلاحية البلدية على الاقتراح فقط، من دون أن تكون صاحبة القرار بتسمية من عدمها».
بالمختصر، إنها محاولة، ولو رمزيّة، لتقليص شيء من المعاناة التي عاشها اللبنانيون، وللاعتراف، أخيرًا، بأنّ الطريق نحو السيادة يبدأ من أسماء الشوارع.