بقلم جمال حلواني
بيروت العاصمة مدينة متنوعة، حيوية لها اولوياتها في العيش مع بنيتها الاجتماعية والسكانية، المشكلة من اهلها وشركائهم من اللبنانيين الذين نزحوا إليها وأقاموا فيها واصبحوا جزءاً من نسيجها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. ومعهم كل الزائرين المؤقتين من السياح والعابرين. وهؤلاء جميعاً شركاء في الحقوق والواجبات على كل المستويات في السكن والعمل والإقامة، وفي الحصول على الخدمات وحق العيش في بيئة نظيفة غير ملوثة.
مدينة يُفترض أن ما تبقى فيها من مساحاتها الخضراء مصانة. مدينة تبحث عن حق السكن لأبنائها وعن وسائل نقل عامة. مدينة خالية من النفايات كما هو حال المدن الحضارية النظيفة. لكن ماساة المدينة تطرح السؤال أين بلدية بيروت من كل ذلك؟ من حق أبناء بيروت والمقيمين فيها أن يكونوا على بينة ومعرفة بدورها، وتاريخها، وحضارتها، بدورها التجاري والاقتصادي، وفعالية مرفأها التاريخي. ومن حقهم أيضاً متابعة تطورها العلمي والطبي والثقافي بكل ما يحتشد فيها صروح اكاديمية ومستشفيات، ومنتديات ومجالس وهيئات ثقافية ودور نشر ومراكز ابحاث ودراسات. والأهم النظر إلى تنوع تكوينها الطائفي السياسي والاجتماعي وما يحشده من شرائح وأقليات عرقية وأثنية، باعتباره مصدر غنىً إنساني لها وللبنان في آن، باعتباره تعبير راقٍ عن العيش المشترك الذي يُركن لبناء مداميك الوطنية اللبنانية الراسخة.
من حق أبناء المدينة أن تكون بلدية بيروت مؤسسة فاعلة تحظى بثقتهم بقدر ما هي معنية بقضايا المدينة، خلافاً لما هي عليه الآن. لأن العمل البلدي مسؤولية اجتماعية موصولة بمصالح وحقوق الذين شاركوا في الانتخابات سواء الذي انتخبوا المجلس البلدي الحالي أو من صوات لسواه الذين تشكلوا في لوائح منافسة.
بعد شهرين على الانتخابات البلدية التي أكدت فيها قوى السلطة سيطرتها على قرار المدينة بذريعة بالمناصفة. وهي الكذبة التي يستظلون رايتها للاستئثار بالمواقع والخدمات والصفقات والمنافع في إطار المحاصصة الطائفية والفئوية. ومع الاجتماع الثالث للمجلس الجديد تكشفت طبيعة بنية المجلس العديمة الصلة بالعمل البلدي، وصعدت روائح الصفقات وأخبار الخلافات حول مناقصات رش المبيدات الحشرية والقوراض في المدينة. وتكشفت مصالح العديد من الاعضاء الذي اصروا على منع بعض الشركات من تقديم هبات مجانية، سواء لرش المبيدات أو لاستكمال إنارة العاصمة، أو لتقديم تجهيزات للحرس البلدى واصلاح شوراع منطقة الجميزة، وبعض شوارع العاصمة تحت عناوين. والاعذار تفوح منها روائح التنفيعات والفساد، بعضهم اصرّ على تلزيم المناقصات لشركات تابعة لهم ، وآخرون فعلوا ذلك من باب المناكفة السياسية. إن كل المعيطات تؤشر إلى أن المجلس الجديد محكوم بالتعطيل تحت عناوين طائفية، يؤكدها تبادل القول إن المسيحيين يعطلون الهبات للمناطق المسلمة، والمسلمون يذكرون المسيحيين أنهم من حمى المناصفة.
والسؤال الملح هل يملك المجلس البلدي الراهن رؤية وبرنامج عمل للسنوات الست المقبلة. وهو الذي تشكل كلائحة قبل أيام من موعد الانتخابات والغاية بضمان الفوز فيها فقط لا غير.
لقد نجحت أحزاب السلطة في السيطرة السياسية على قرار المجلس البلدي. ما يطرح السؤال، هل بات لدى العاصمة مجلس بلدي فاعل معني بتسيير شؤون العاصمة وحل مشكلاتها. ويطعن بهذا الامر الكثير من التعقيدات. التي تبدأ من القرار السياسي الذي يمنع المجلس من أخذ دورها والنهوض بمدينة ما تزال بعض مرافقها تحاكي العصر الحجري. وتمر بافتقاد البلدية للامكانيات المالية والادارية والفنية، وصولاً إلى ما تراكم من المشكلات على مدار ثلاثين عاماً من الفساد السياسي والإداري والمالي والاستزلام للدخول الى جنة البلدية. يؤكد ذلك أن المجلس الحالي لم يتجرأ ومن غير المسموح له أن يقدم كشفاً بما استلمه، لأن في الامر فضيحة لمرجعيات المجالس السابقة للمحافظين الذي سبق وتولوا المسؤولية عنها وعليها. وهو ما يجب أن يكون موضع مساءلة ومحاسبة.
وعلى ذلك يبدو وكأن عمل البلدية سيبدأ من الصفر، لكن العقبة الأساسية والاهم تكمن في المجلس البلدي الفاقد لأهليته بفعل المحاصصة الطائفية. عدا أنه لا يملك القرار التنفيذي، لأن دوره محصور باقتراح المشاريع، التي تحال الى المحافظ للموافقة والسماح بتنفيذها عندما يشاء. يؤكد ذلك وجود مئات المشاريع المكدسة في ادراج المحافظة والبلدية منذ سنوات طويلة، والكثير منها يتعلق بشؤون المواطنين ومصالحهم وأكثرهم من الذين لا صوت لهم.
إن المشكلات والعقبات والأزمات التي تعج بها المدينة تنال من دورها. وهذا ليس بالأمر المفاجئ لأنها عاصمة البلد، وفيها تحتشد وتتمظهر كل نتائج الانهيار الاقتصادي والمالي ونزاعات قوى السلطة. ما يبرر طرح الأسئلة حول سبل معالجتها ودور بلديتها في ظل حالة الشلل والتعطيل المتبادل وعلاقته بالقوانين النافذة، وما يفرضه ذلك من تحديات، إن لناحية استعادة حق المجلس ورئيسه في اتخاذ القرار كما هو الحال مع سائر المجالس البلدية. أو لجهة الحد من البيروقراطية الوظيفية المتفشية في دوائرها.
وأبرز المشكلات يكمن في استطالة أزمة النفايات المديدة في العاصمة، التي تتجدد سنويا دون أن تجد حلولاً، والسبب أنها الدجاجة التي تبيض ذهباً للمنتفعين من أهل السلطة وملحقاتهم من تجار ومافيات الخدمات المتعددة الشراكات والتي تتعيش من الازمات وإعادة انتاجها. وهم الذين نجحوا لغاية الآن في تعطيل وإفشال جميع مشاريع الحلول . وبذلك يتكرس تلوث البيئة وتتكاثر أسراب الحشرات والقوارض. وتتزايد مشكلات الروائح والأوبئة المتنقلة التي يتسبب بها تجار خردة النفايات الذين يستغلون الفقراء والمهمشين الذي يُطلق عليهم فرق” النكيشة” وهم الباحثين في حاويات وأكوام النفايات عن ما يمكن بيعه مصدراً لمعيشتهم، دون أي تدخل من البلدية.
وعلى رافعة أزمات الكهرباء، ومياه الشرب تتضخم أدوار مافيات أصحاب المولدات المحمية من قوى واحزاب السلطة. وهي التي تتحكم برقاب وجيوب السكان عبر استغلال حاجاتهم الملحة للكهرباء، ولا تختلف عنها مافيات شركات تعبئة المياة وصهاريج توزيعها على الاحياء. أما شوارع العاصمة المليئة بالحفر، والارصفة المصادرة والتي تحولت مواقف للسيارات دون حسيب او رقيب فحدث ولا حرج.
أما الحدائق العامة والمساحات الخضراء فأكثرها مهمّل أو مقفل أمام المواطنين وأبنائهم. والمساحات الخضراء القليلة أو المتبقية لا غرابة أن تستباح من قبل الذين وضعوا ايديهم عليها. ويبقى أن الضحية الاولى هم اطفال والاولاد والشباب الذي لا يجدون ملعباً عاما يذهبون إليه سوى شوارع الاحياء والمساحات المهجورة. وفي السياق فإن مستوصفات العاصمة التابعة للبلدية معدومة القدرة على تأمين الحد الادنى من الخدمات الطبية لاصحاب الحاجة من المواطنين لانها تفتقد للتجهيزات اللازمة والادوية وللاطباء ذوي الكفاءة.
تعاني المدينة من أزمة السكن ولا دور للبلدية في المساهمة بمعالجتها، يؤكد ذلك ابناء المدينة الذين ليس باستطاعتهم السكن في الابنية الفخمة والذين يضطرون للبحث عن سكن لهم في الضواحي المجاورة. هذا عدا استباحة شواطىء وأملاكها العامة وخاصة البحرية منها. وفي الاطار تقع محاولات مصادرة بحر عين المريسة و الروشة لبناء مجمعات سياحية تجارية، تصادر حق الناس في الوصول إلى شط البحر ورؤوية المياه خلافاً للقانون، تحت شعار تحسين الواجهه البحرية لبيروت. أما ما تبقى من شواطىء فهي مليئة بالنفايات وبعضها مصادر من قبل جمعيات خاصة كما هو الحال في شط الرملة البيضاء أو المسبح الشعبي، حيث المنتفعين بذريعة التزام شؤون النظافة وتأمين الخدمات.
لا مكان في بلدية العاصمة للتخطيط العمراني وتنفيذ البرامج الانمائية التى تحاكي طموحات أبناء المدينة والمقيمين فيها. ولا مكان ايضاً للتخطيط والاستفادة من الامكانات العلمية والفنية لدى الجامعات والجمعيات المعنية بالعمل المدني و قضايا البيئة والجهات التي باستطاعتها المساهمة والمشاركة في العمل البلدي والتنموي لتطوير المدينة. ولا مكان لتشجيع الشباب على العمل التطوعي و تمكينهم من الانتساب للعمل العام وتولي المسؤولية بعيداً عن المحسوبيات والاستزلام.
إن ما نطرحه من هموم واهتمامات يتصل بقضايا المدينة وعمل المجلس البلدي. وهو المدعو إلى وضع خطط فعلية لإعادة هيكلة دور ومهام البلدية من ألفها إلى يائها. إن ما نطرحه غايته تحفيز أصحاب الشأن وأهل الطموح في العيش في بيئة مستقرة ونظيفة. ولأننا نستبعد مبادرة ممثلي أحزاب الطوائف لتحمل مسؤولية على النحو الذي يستجيب لمصالح المدينة فإننا لا نراهن عليهم. ولكن ذلك يستدعي من المعنيين من قوى مجتمعية وجمعيات وناشطين المبادرة لتنظيم جهودهم وتشكيل الأطر ولجان الاحياء التي تحاكي الشأن البلدي على الصعيد العام وفي احياء المدينة. والهدف وضع مجلس البلدية والمحافظ تحت نظر المراقبة والمحاسبة، تمهيداً لرفع الصوت وتنظيم الاحتجاجات والضغط لمواجهة الإهمال والفساد والاساءات التي يتعرض لها سكان المدينة، المحرومين من ابسط حقوق العيش بكرامة. وهذا يتطلب وضع برنامج وخطة عمل لمعالجة المشكلات مدخلاً لمسيرة تطوير العمل البلدي وقيادة المدينة لتصبح في مصاف عواصم العالم.