بقلم داود رمال
@DaoudRammal
في قلب النقاشات الدائرة اليوم على الساحة اللبنانية، يظهر السؤال الجوهريّ الذي يختصر كلّ الأزمات المتراكمة والمتشابكة منذ عقود: من يملك قرار حصرية السلاح في لبنان؟ وهل هو قرار لبنانيّ فعلًا بيد القوى السياسية والعسكرية التي تمتلكه على الأرض؟ أم أنّ هذا القرار مرهون بإرادات خارجيّة، وتحديدًا الدول التي زوّدت هذه القوى بالسلاح، وترعى وجودها وتحرّكها وتوظيفها في ساحات الصراع الإقليمي؟
التطوّرات الأخيرة تؤكّد أنّ لبنان أمام لحظة مفصليّة، تكاد تكون صراعًا حقيقيًا بين إرادتين متناقضتين بالكامل. الأولى لبنانية خالصة، تنادي بأن يكون قرار السلاح، شأنه شأن الأمن والسيادة والحدود والسياسة الخارجية، بيد الدولة وحدها، بهدف إنهاض لبنان من كبوته وإعادته إلى طبيعته كدولة ذات مواصفات كاملة، مرجعية واحدة وسيّدة قرارها فوق كامل ترابها الوطني. أمّا الإرادة الثانية، فترى في لبنان ساحة دائمة لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية والدولية، وتريده أن يبقى صندوق بريد متنقلًا، تُرسل منه الرسائل السياسية بلغة النار على حساب دماء اللبنانيين ومصيرهم واستقرارهم.
وفي صلب هذا المشهد، لا يمكن تجاهل موقع «حزب اللّه» باعتباره القوة العسكرية الأبرز خارج مؤسسات الدولة، والأكثر تعقيدًا في مقاربة مسألة السلاح. فـ «الحزب»، ورغم ما يدّعيه من «قرار داخلي» مستقلّ، إلّا أنّ الوقائع والمعطيات المتراكمة تؤكد أنّ قرار سلاحه لم يعد في الأصل بيده، بل هو في يد الحرس الثوري الإيراني. هذه الحقيقة لم تعد مجرّد تحليلات، بل باتت تُقال علنًا من مسؤولي النظام الإيراني، وكان آخرهم وزير الخارجية عباس عراقجي الذي تحدّث بشكل لا لبس فيه عن «الدور الاستراتيجي» لسلاح «الحزب» المرتبط مباشرة بالمصالح الإيرانية العليا في المنطقة. وإلى جانب تأكيده الصريح على تبعية القرار العسكري لـ «الحزب» لطهران، فإنّ ما قاله عراقجي يستبطن أيضًا، وفق قراءة سياسية معمّقة، دعوة غير مباشرة وصريحة في آن للتفاوض مع إيران مباشرة حول هذا السلاح، باعتبارها المرجعية الوحيدة القادرة على البتّ بمصيره، وهو ما يعني فعليًا أنّ هذا القرار بات خارج النطاق السيادي اللبناني، ويخضع لمعادلات إقليمية كبرى لا علاقة لها بمصلحة لبنان أو أمنه واستقراره.
وإن لم يكن تصريح عراقجي كافيًا، فإنّ الكلام الذي أطلقه السفير الإيراني في لبنان مجتبى أماني قبل نحو ثلاثة أسابيع أمام مجموعة من الصحافيين، عندما كانت النقاشات اللبنانية لا تزال في بدايتها حول بنود الجلسات الحكومية، شكّل دليلًا قاطعًا ومباشرًا على هذه الحقيقة. فحين سأله أحد الصحافيين عن موقف طهران من مسألة تسليم السلاح، ردّ أماني بغضب واضح قائلًا: «لن نسلّم ولو طلقة واحدة، والقرار بشأن سلاح حزب اللّه في لبنان هو بيدنا». هذه العبارة وحدها، بما تحمله من دلالة سياسية وأمنية، تنسف كلّ ادّعاءات الاستقلالية وتؤكد مجدّدًا أنّ «الحزب» لم يعد يتحرّك بناءً على حسابات لبنانية، بل وفق ما تمليه عليه مرجعيّته الإقليمية.
من هنا، فإنّ النقاش حول حصرية السلاح لا يجب أن يُختصر في مسألة داخلية فقط، بل يجب أن يُقارب على أنه قضيّة سيادية من الطراز الأول، عنوانها أنّ القرار السيادي اللبناني مرتهن في جزء كبير منه لقوّة عسكرية خارج مؤسسة الدولة، تتحرّك بتعليمات إيرانية، وتمنع استعادة الدولة دورها الكامل.
ولعلّ الوقت لم يفت بعد. النصيحة، وللمرة الألف، أن تُقدِم الجهات الممسكة بالقرار الشيعي، بل حتى بالقرار الوطني في بعض مفاصله، على خطوة تنازل تاريخية لمصلحة لبنان. فأنتم الذين قبضتم على هذا القرار لعقود، وكان يمكنكم أن تساهموا بجدية في بناء دولة قوية، عادلة، قادرة، سيدة، تمثل كلّ اللبنانيين، وتحميهم من الخراب. لكنكم لم تفعلوا، بل ساهمتم في إضعاف الدولة ومؤسساتها وتكريس منطق الدويلة. اليوم، التنازل ليس انكسارًا، بل انتصارًا حقيقيًا للبنان ولمستقبل أبنائه. أمّا الإصرار على مسار الهيمنة والسلاح المنفلت من يد الدولة، فلن يقود إلّا إلى خراب كبير… أنتم تملكون الخيار، لكن القرار، كما يبدو، لا يزال في مكان آخر.