بقلم السّفير د. هشام حمدان
لطالما كنت من المعجبين بالسّياسة الحكيمة للقيادة السّعوديّة طوال عقود من الزّمن. إحتفظت المملكة بسياسة محافظة واقعيّة، أبرزها عدم التّدخّل في الشّؤون الدّاخليّة للدّول الأخرى، وعدم الدّخول في مغامرات إيديلوجيّة، وعدم لعب دور قوّة إقليميّة تسعى الى فرض أجندتها الخاصّة على الآخرين.
ساهمت السّعوديّة بدور فاعل أساسي في مواجهة الجنوح الإيديولوجي اليساري خلال الحرب الباردة. وعملت على تسوية النّزاعات الدّاخليّة في الدّول العربيّة أو ما بين هذه الدّول، بالطّرق الدّبلوماسيّة الهادئة دون تهويل أو دقّ طبول. ولطالما ساهمت في تخفيف معاناة شعوب المنطقة سواء بمساعدات إنسانيّة، أو من خلال برامج ومساهمات إنمائيّة، ومشاريع إعادة الإعمار والبناء لما سبّبته سياسات المحاور من دمار وخراب على المدنيّين في تلك الدّول.
أهل لبنان، لا يمكن أن يتجاهلوا الدّور الفاعل الذي قامت به المملكة لإنهاء الحرب الأهليّة الدّمويّة فيه، واستضافة مؤتمر الطّائف التّاريخي على أراضيها والذي أرسى قواعد الدّستور اللّبناني الحالي، وحظي بدعم وطنيّ شبه شامل، وبتأييد دوليّ كامل. كما لا ينسون ما قدّمته لدعم جهود الرّئيس الشّهيد رفيق الحريري في إعادة الإعمار والتّنمية في لبنان. إنّ النّهضة التي قامت في لبنان بعد الطّائف، لم تكن لتحصل لولا الدّعم السّياسي والمادّي للسّعوديّة. لبنان يحفظ لها ما قدّمته من فرص لألوف العائلات اللّبنانيّة من دون تمييز، للعمل على أراضيها وتحسين ظروف عائلاتهم المعيشيّة.
قدّمت المملكة كلّ الدّعم للبنان، في حين أنّها لم تكن تمسك بالقرار السّياسي فيه. كان نظام حافظ الأسد يمسك بزمام الأمور. وعليه، لم يستكمل إتّفاق الطّائف، وتمّ إغتيال رفيق الحريري بعد طول ابتزاز، وسلّمت البلاد إلى نظام الخميني في إيران ألذي جعل تصدير الثّورة وتقويض النّظام في السّعوديّة وغيرها من الدّول الخليجيّة المعتدلة، من أولويّاته.
وعليه، لم نفاجأ بعمق الدّعم السّعوديّ للنّظام الجديد في سوريّة. بلّ ذهبت السّعوديّة إلى تبنّي نظام الرّئيس الشّرع، والعمل على دعمه بكلّ ما لديها من علاقات إقليميّة ودوليّة وإمكانيّات ماديّة ضخمة. لا يخفى تأثير المملكة على القرار الأميركي برفع العقوبات عن سوريّة، وعن رفع جماعة النّصرة عن لائحة الإرهاب. وقد جاء قرار المملكة الأخير بدعم سوريّة باستثمارات كبيرة، في هذا السّياق. مثل هذا الدّعم، يساهم ولا شكّ في تعزيز التّنمية والإزدهار في بلاد الشّام. ويدفع قدما بالنّظام الإقتصادي الجديد الذي يؤسّس له النّظام السّوري تحت عنوان ترقية دور القطاع الخاصّ إلى حدّ المشاركة مع القطاع العامّ في إدارة النّظام الإقتصادي الجديد. مثل هذا الدّعم المادّي، يقدّم كذلك، حوافز قوّيّة لتهدئة الأوضاع الأمنيّة، واستعادة الإستقرار الى الرّبوع السّوريّة.
نقول هذا الكلام من دون أيّة مجاملة، ومن موقع القناعة التي أعربنا عنها في عشرات المواقف طوال مهمّتنا الدّبلوماسيّة وكتاباتنا وبحوثنا الأكّاديميّة. لكن، ورغم الثّناء على هذا الموقف السّعودي، لا يمكننا أن نثق بقدرة المملكة فعلا، على تكريس النّظام بين مكوّنات الشّعب السّوري، أقلّه بعد الأحداث التي حصلت للأقلّيّات في البلاد، وآخرها أحداث السّويداء. هناك شائعات عن دعم متموّلين سعوديّين للقاعدة، بما في ذلك ما حدث في العدوان على الولايات المتّحدة في 11 أيلول/سبتمبر 2001، لكنّ الحكومة السّعوديّة، رفضت هذه الإتّهامات. لم تلعب السّعوديّة في أيّ ظرف، دورا رسميّا قهريّا ضدّ أيّة أقلّيّة عربيّة. فتحت أبوابها للجميع من دون أيّ تمييز. يعمل الدّروز والمسيحيّون والشّيعة في السّعوديّة، متمتّعين بكلّ الضّمانات الإنسانيّة والكرم السّعودي المعروف. ثمّ أنّ ما برز من تحوّلات فيها منذ تولّي وليّ العهد السّعودي ألأمير محمّد بن سلمان، إدارة شؤؤون البلاد، يجعل أيّ تدخّل سلبيّ ضدّ أقلّيّات دينيّة أمرا خارج المنطق. في الواقع، لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال، مقارنة الدّور السّعودي مع أدوار القوى الإقليميّة الأخرى سواء إيران، أو تركيّا أو قطر، أو إسرائيل طبعا.
وفي الواقع، لا بدّ لنا أن نلاحظ، أنّ السّعوديّة تعيد في مواقفها الحماسيّة إلى جانب النّظام في سوريّة، تكرار الدّور الحميد الذي لعبته سابقا في لبنان لخدمة أهداف السّلام والإعتدال في المنطقة، والذي فشل بسبب إمساك طرف إقليميّ آخر (سوريّة) بالنّظام اللّبناني. نخشى أن تفشل كلّ تقديمات الدّعم السّعودي في سوريّة، إذ أنّ السّعوديّة، لا تمسك بالنّظام فيها. تعلم السّعوديّة، أنّ من يمسك بتوجهات النّظام السّوري، هي تركيّا. قد تكون تركيّا دولة صديقة للمملكة بمقاييس متعدّدة منها الرّابط المذهبي السّنّي، والعلاقة المميّزة مع الغرب، والتّعاون الإقتصادي والسّياسي الوثيق. لكن لا أحد يجهل، أنّ لتركيّا مصالحها الخاصّة في المنطقة ورؤيتها السّياسيّة الشّرق أوسطيّة ألمختلفة عن مصالح ورؤى السّعوديّة، وخاصّة، فيما يتعلق بالجغرافيا السّوريّة، أو بالنّسبة للأقلّيّات الموجودة فيها، وموضوع العلاقة مع إسرائيل.
تركيّا، ألتي تحتلّ أجزاء من الأراضي السّوريّة، هي التي أشرفت على تدريب وتسليح وتمويل جماعة النّصرة ألتي تتولّى الحكم في البلاد حاليّا. وقد لعبت دورا هامّا منذ بداية ما سمّي بالرّبيع العربي، في تحريك الجماعات الأصوليّة في الصّراع القائم في هذه الدّول، سواء في العراق أو في سوريّة وليبيا أو في السّودان حاليّا. وقد ساهمت برفد النّصرة في سوريّة بالعناصر المختلفة من السّلفيّين والأصوليّين السّنّة العرب وغير العرب. تركيّا، ترى في سوريّة إمتدادا حيويّا لمصالحها الأمنيّة والسّياسيّة والإقتصاديّة، وكذلك الإيديولوجيّة الدّينيّة. ولا تخفى مطامعها التّاريخيّة في هذا البلد العربي، ولا سيّما بالنّسبة إلى محافظتيّ حلب وإدلب. كما أنّها في صراع مع الأكراد وقسد، وهم سنّة أيضا. وهي تحرص وتعمل على عدم تمدّد النّفوذ الرّوسيّ والإيرانيّ في المناطق العلويّة، وتريد تحجيم التّأثير الإسرائيليّ بين الدّروز في الجنوب السّوري. وهي لذلك، معنيّة بعمق بالتّفاصيل اليوميّة للأحداث في سوريّة.
هذا إضافة، إلى أنّ الإسلام في تركيّا، ليس فكرا إيمانيّا فحسب، بلّ له طبيعة سياسيّة متّصلة بفكر الإخوان المسلمين ونظرتهم إلى الواقعين العربي والفلسطيني. هذه النّظرة، بحسب قراءاتنا لتطوّر تاريخ العلاقات في المنطقة، يختلف عن رؤية السّعوديّة. تركيّا، تؤيّد حماس، فيما السّعوديّة، تؤيّد وتدعم السّلطة الوطنيّة في رام الله.
لقد قلنا في مناسبات أخرى، أنّ الموقف العربي إزاء الأحداث في سوريّة، مخطئ. ألصّمت عن التّنكيل بالأقلّيّات في سوريّة، أمر ضارّ بصورة الإصلاحات التي يسعى من خلالها، قادة الخليج، ولا سيّما السّعودية، إلى إقناع العالم بخضل الإتّهامات بأنّها أنظمة إنعزاليّة سلفيّة متشدّدة في فكرها الدّيني، وأنّها ما زالت تتابع الحروب الإسلاميّة الصّامتة ضدّ الغرب. وعليه، نكرّر، بأنّ هذا الدّور السّعودي المحمود في سوريّة وكذلك في لبنان، يجب أن يأخذ بعين الإعتبار، ليس فقط حماية النظام القائم في سوريّة، بلّ أيضا، واقع احترام حقوق الأقلّيّات فيها، ومراعاة مخاوفها التّاريخيّة المعروفة.
بالنّسبة إلى لبنان، لا يخفى على أحد ما تقدّمه السّعوديّة من دعم مادّيّ ومعنويّ وسياسيّ لبعض القيادات السّياسيّة. لا نريد أن نناقش الأسباب. مهما تكن هذه الأسباب، يشكّل الدّعم السعّودي لهذه القيادات، مساهمة حاسمة في حالة إستشراء الفساد في البلاد والتّورية على حالة الإنهيار الأخلاقي والإقتصاديّ والوطني فيه. أللّبنانيّون، هم ضحيّة اتّفاق الدّوحة لعام 2008، ألذي كرّس تجاهل إتّفاق الطّائف، وجعل الحكم في البلاد محاصصة بين أمراء الحرب الذين تلوّثت أيديهم بدماء ألوف اللّبنانيّين، وكذلك الدّعم السّعودي لبعض هؤلاء الأمراء، مقابل الدّعم الإيراني لأمراء يسيرون في الرّكب الإيراني.
في الواقع، ثمّة حاجة لمراجعة الدّعم الذي تقدّمه المملكة في لبنان، بغية توجيهه نحو تفعيل الإصلاح والتّغيير، وإستكمال تطبيق اتّفاق الطّائف في البلاد. نتطلّع الى سموّ وليّ العهد في السّعوديّة أن يأخذ بعين الإعتبار ما قلناه، فالصّديق من يصدقك. إنّ لبنان، وكذلك سوريّة، بحاجة إلى رؤية وطنيّة إنقاذيّة بعيدا عن الإيديولوجيّات السّياسيّة والدّينيّة. هما بحاجة إلى رؤية لبناء السّلام فيهما بعد الحرب، وفقا لمنطوق ما توصّل إليه الفكر الدّولي بعد مناقشات طويلة بهذا الصّدد.