بقلم السفير د. هشام حمدان
أطرح هذا السؤال لأنني أعتبر أنّ الجميع في سوريّة خاسر، والرّابح الأكبر هي قوى خارجيّة. ألكلّ هناك، تحوّل شاء أم أبى، إلى أداة في خدمة مصالح خارجيّة، تماما كما هو الحال في لبنان.
كان النّظام السّابق ممسكا بالبلاد عبر البطش وسفك الدماء. أمّا النّظام الحالي، ألذي جاء على حصان التّحوّل نحو الحرّيّات، فهو ما زال يسعى للإمساك بالبلاد. يبدو أنّه اختار أيضا طريق العنف لتكريس سلطانه، كما فعل النّظام السّابق.
في الواقع، من الواجب إذا أردنا أن نكون عادلين، أن نقول أنّ النّظام الجديد في سوريّة أخطأ في مقاربة ملف الأقلّيّات في البلاد. كان النّظام السّابق حريصا على عدم ممارسة البطش تحت عنوان مذهبي، بلّ تحت عنوان سياسي وإيديولوجي. أمّا الذين جاؤوا بالنّظام الحالي، ألذي يحمل إيديولوجيا مذهبيّة غير خافية (الأخوان المسلمون)، قلّلوا من آثار هذه الإيديولوجيا على الأقلّيّات وتغافلوا أنّها بحدّ ذاتها، عنصر مثير للقلق العفوي لدى كلّ الأقليّات الأخرى في البلاد. كلّنا ندرك أنّ القائمين على السّلطة في سوريّة، هم أنفسهم قادة جماعة النّصرة ألتي كانت موصوفة دوليّا، كقوّة أصوليّة أرهابيّة، والتي كانت تحظى بدعم وتمويل وتدريب من النّظام في تركيّا. ربما أنّ نموذج حكم الأخوان في تركيّا ألذي يدير البلاد بموضوعيّة مميّزة، أقنع هؤلاء بأنّ النّظام الجديد في سوريّة سيتعامل مع الأقلّيّات كما فعل نظام الأخوان في تركيّا خاصّة وأنّه يعمل بتنسيق عميق مع القيادة التّركيّة.
تقول المعلومات أنّ قائد النّصرة الجولاني (ألرئيس الشّرع)، تلقّى تدريبا مكثّفا لتحويله إلى قائد سياسي يمكن أن يقود البلاد إلى برّ الأمان حين تحين السّاعة. لا شكّ أنّ من قام على تدريبه، كان يدرك عمق الدّور السّوري في عمليّة بناء السّلام الإبراهيمي في الشّرق الأوسط. كما كان يدرك أهمّيّة التّغيير في سوريّة وكذلك في لبنان، لتحقيق عملية دمج إسرائيل سياسيا وإقتصاديا، في منطقة الشّرق الأوسط. وقد حظي هذا التّوجّه بدعم عربي شامل وخاصّة من دول الخليج التي كان مطلوبا منها دعم النّظام ماديّا لإعادة بناء الدّولة في سوريّة. لا يمكن الشّكّ بأنّ النّظام الجديد كان قد أعدّ لهذا الدور. شكّل إقامة سلام مع إسرائيل وتوفير القدرات الإقتصاديّة السّوريّة وخاصّة الغاز والنّفط لخدمة مشروع السّلام الإبراهيمي، مدماكين أساسيّين في التّوجّهات المفترضة للنّظام الجديد.
سوريّة غنيّة جدّا بالثّروات النّفطيّة، وهي ستكون مصدّر الغاز الى أوروبّا بدلا عن روسيّا ودائما عبر تركيّا. كما أنّها مفتاح كلّ بلاد الشّام لدمج إسرائيل في المنطقة. لكن، هل تمّ الإعداد للعقبات التي قد يواجهها النّظام الجديد؟ هل تمّ الأخذ بالإعتبار دور الإتّحاد الرّوسي وواقع الأقلّيّات والموقف الإسرائيلي؟
لا شك أنّ وصول ألشرع إلى السّلطة بهذا الشّكل النّاعم ألذي حصل، يؤكّد أنّه جرى الإعداد لسّاعة الصّفر بدقّة متناهية. برز ألصّمت الرّوسيّ واستمرار روسيّا ممسكة بقاعدتها العسكريّة الوحيدة في البحر الأبيض المتوسط ، ودخول إسرائيل إلى جبل الشّيخ، وضرب البنى العسكريّة السّوريّة أللذين تمّا من دون أيّة مقاومة ولو رمزية، كأنّه جزء من التّغيير الجاري. كما كان من المفروض أن يتعامل النّظام الجديد مع الأقلّيّات دون تمييز في المعايير الدّينيّة على غرار ما تقوم به تركيا حاليّا.
لآ أخفي أنني كنت أتوقع أن يتم إقامة نظام فدرالي في سوريّة على غرار العراق بغية تهدئة قلق الأقلّيّات. لم يتم ذلك. رفض النّظام إقامة فدراليّة في البلاد رفضا قاطعا ما يؤكّد أنّه قرار مدروس ومتّفق عليه سابقا بشأن واقع التّعامل مع الأقلّيّات في البلاد.
هناك عدّة أسباب يمكن أن تفسّر رفض الفدرلة في سوريّة. فمن جهة هناك قناعة بأنّ العلويّين في سوريّة، يخضعون لتأثير إيران، ومن غير المقبول أو المسموح به أن يكون لإيران أي دور في مستقبل سوريّة. وهذا الأمر ينطبق على لبنان أيضا. ونعتقد، أنّ بقايا النّصرة من ميليشيات أجنبيّة إستمرت عاملة بغية خدمة النّظام في مواجهة أي تمرّد قد يحصل أو خلايا متبقيّة للنّظام السّابق، ولا سيّما في السّاحل السّوري، وكذلك لتحويلها إلى لبنان لاحقا للقضاء على خلايا حزب الله. ومن جهة ثانية، فالدّروز معروفون بأنّهم من الأقلّيّات المتجذّرة في الأراضي التي يقيمون فيها والملتزمة الولاء لسّلطات بلدانهم طالما لا تعاديهم. ولذلك ساد اعتقاد أنّ بإمكان الزّعيم الدّرزي وليد جنبلاط أن يلعب دورا مؤثّرا وحاسما بهذا الصدد، فيقنع دروز سورية عبر تواصله مع الرّئيس الشّرع بأنّهم سيكونون بخير. قام جنبلاط بزيارة الشّرع وتأيّيده مطالبا الدّروز بتسليم سلاحهم للدّولة.
حذّرنا في حينه من التّعامل مع الدّروز من منطلق وحدة قوميّة ولفتنا أنّ لكلّ جماعة ظروفها في البلد الذي تقيم فيه. ما يجمع الدّروز هو عامل ثقافي وحضاري وليس سياسي. كان الإتّكال على سيد المختارة لهذا الغرض خطأ كبير حذرنا من تداعياته على وحدة الدّروز وعلى صاحبه نفسه. سيد المختارة ركيزة سياسيّة وليس ثقافيّة. قلنا أنّ عدم التّعامل مع الدّروز في جبل العرب بالجدّيّة المناسبة سيوصل إلى بحر من الدّماء. عبثا محاولة التّعامل مع دروز سوريّة كأنّهم أتباع زعيم المختارة، أو أنّهم يخافون الموت وترعبهم الميليشيات. تاريخ الدروز في الجبل لم يرتبط بعائلة إقطاعيّة بل هم أحفاد سلطان باشا الأطرش الذي لم يكن يوما سياسيّا تحرّكه مصالح خارجيّة بل كان زعيما تحرّكه القيم والشّيم والكرامة التي قام عليها الدّروز. يذكر البعض دائما أنّ سلطان باشا كان قائد الثّورة العربيّة لكنّهم يتناسون أنّه ذهب للثّورة جامعا بين التزامه أمّته والدفاع عن شيمه في حماية اللّاجئ الى بيته. تفاعل الخوف لدى دروز سوريّة بعد الذي شهدوا ما حصل في السّاحل. إزداد موقفهم المعارض للتّسليم للنّظام من دون ضمانات بعد ان رأوا تعاطي النّظام مع أكراد قسد.
تدرك إسرائيل ألتي نعلم عمق علاقاتها المميّزة مع الولايات المتّحدة، أنّ الرّاعي الحقيقي للنّظام السّوري هو تركيّا برغبة أميركيّة وعربيّة. تعلم أنّ الولايات المتّحدة تمارس دورها في سوريّة من ضمن علاقاتها الاستراتيجيّة مع أنقره، وأنّ العرب يدعمون النّظام والدّور التّركي بسبب الرّوابط الدّينيّة وأيضا ألسّياسيّة مع تركيّا. كما تعلم أنّ الولايات المتّحدة حريصة على حماية موقعها في المنطقة، لكنّها لا تقبل أبدا أن تضع أمنها في يد أخرى حتّى لو كانت الولايات المتّحدة نفسها. من منّا يمكن أن يتجاهل ألصّراع التّركي الإسرائيلي. تركيّا لا ترغب أن ترى إسرائيل تلعب دورا في سوريّة مماثلا لدورها في الإقليم الكردي في العراق. كما أنّ إسرائيل لا تريد أن ترى تركيّا تمسك زمام سلطة على حدودها فتلعب دورا مماثلا لدورها في غزّة. إسرائيل لها مصالح استراتيجيّة أمنيّة في سوريّة، أهمها ضمان الإحتفاظ بالجولان وجبل الشّيخ إضافة الى دور في المستقبل السّياسي في سوريّة كضمانة لعدم استدارة النّظام الجديد ضدّها.
ألموقف الدّرزي بالنّسبة لتمدّد النّظام في مناطقه لا يعني أنّ الدروز في الجبل هم عملاء لإسرائيل. لكن جبل العرب هو خاصرة إسرائيل في سوريّة وواقع الدّروز فيه يوثّر كثيرا على مصالحها سواء الأمنيّة أو الإقتصاديّة. ألتّعامل مع الدّروز في الجبل كأنّهم عملاء لإسرائيل خطأ فادح يماثل الخطأ بل الخطيئة في التّعامل الذي جرى مع الموارنة في لبنان في حينه. كان الموارنة أصدق النّاس في الولاء لوطنهم كجزء من العالم العربي.
وعليه، لا يمكن التّعامل مع الواقع الدرزي كما لو كان مشابها للسّاحل العلوي. يمكن أن يتحوّل الدّروز إلى صالح النّظام إذا اصبح معترفا بهم كما هو الحال مع قسد والأكراد. وقف النّار في محافظة السويداء. هدنة. والسّؤال هل سيتمّ تحقيق ترتيب سياسي يشابه ما يحصل مع منطقة الأكراد؟ لن يسلّم الدّروز سلاحهم كما طلب قصر المختارة، بل يريدون ضمانات لأمنهم وهذا من حقّهم في لعبة الأمم، وإلّا فالحرب ستعود.