لبنان بين القانون والمخالفة… “وثائق الاتصال” و ”مذكرات الإخضاع” سيفٌ مُسلَّط على رقاب المواطنين والمعارضين
بقلم د. عبد العزيز طارقجي
رغم مرور سنوات على قرارات حكومية متتالية بوقف العمل بما يُعرف بـ”مذكرات الإخضاع” و”وثائق الاتصال”، ما زالت الأجهزة الأمنية في لبنان تُصرّ على إبقاء هذه الأدوات القمعية حيّة، في تحدٍّ صارخ للقانون، وفي ازدراء فاضح لقرارات السلطة التنفيذية التي يُفترض أن تكون ملزمة لها.
أدوات قمع بغطاء أمني
تاريخيًا، وُلدت مذكرات الإخضاع ووثائق الاتصال كإجراءات “إدارية” وضعتها الأجهزة الأمنية بحجّة المتابعة أو “التحرّي عن الأشخاص المطلوبين”، لكنها تحوّلت بسرعة إلى سلاح سياسي وأمني استُخدم على نطاق واسع لإذلال المواطنين وتضييق الخناق على المعارضين والنشطاء والصحافيين.
هذه الإجراءات كانت، وما زالت، خارج الإطار القضائي، أي أنها لا تصدر عن سلطة قضائية مستقلة، بل عن أجهزة أمنية تتخذ قراراتها بمعزل عن المعايير القانونية، ما جعلها أداة مثالية لتصفية الحسابات وقمع الحريات.
قرارات الإلغاء… حبر على ورق
منذ سنوات، اتخذت عدة حكومات لبنانية، بدءًا بحكومة الرئيس نجيب ميقاتي عام 2012، مرورًا بحكومة الرئيس تمام سلام في بداياتها، وصولًا إلى قرار حكومة الرئيس نواف سلام الأخيرة بوقف العمل بمذكرات الإخضاع ووثائق الاتصال، قرارات واضحة وصريحة بإلغاء هذه الأدوات الأمنية المثيرة للجدل.
لكن، وبدل أن تُطوى الصفحة نهائيًا، واصلت الأجهزة الأمنية تفعيلها وكأن شيئًا لم يكن، في مشهد يعكس أن الدولة العميقة أقوى من قرارات مجلس الوزراء، وأن من يملك السلاح الأمني يفرض كلمته حتى فوق القوانين والدستور.
فضائح حديثة في مطار بيروت
الأمثلة على استمرار العمل بهذه الأدوات عديدة، لكن أبرزها ما حصل مؤخرًا في مطار رفيق الحريري الدولي، حيث تم توقيف عدد من المواطنين، بينهم صحافية وناشطون، بناءً على “وثائق اتصال” صادرة عن أجهزة أمنية.
هؤلاء الأشخاص، الذين لم يصدر بحقهم أي حكم قضائي، وجدوا أنفسهم محتجزين لساعات ومُحقّرين أمام المسافرين، في انتهاك مباشر لحقهم في حرية التنقل وكرامتهم الإنسانية.
عرقلة جوازات السفر… عقوبة بلا محاكمة
لا يتوقف الأمر عند التوقيفات، بل يذهب الأمن العام اللبناني أبعد من ذلك، حيث يعرقل إصدار أو تجديد جوازات السفر لبعض المواطنين، متذرعًا بوجود “مذكرة إخضاع” بحقهم.
هذا الإجراء يمثل عقوبة جماعية غير قانونية، وينتهك بشكل صريح المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تنص على أن “لكل فرد الحق في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، وفي العودة إلى بلده”.
الإطار القانوني… أين الدستور؟
المادة 8 من الدستور اللبناني: لا يجوز توقيف أحد أو حبسه إلا وفق أحكام القانون.
المادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية: لكل فرد الحق في الحرية وفي الأمان على شخصه، ولا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفًا.
المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: لكل شخص الحق في حرية التنقل وفي اختيار محل إقامته.
باستمرار العمل بهذه الإجراءات خارج القضاء، تكون الأجهزة الأمنية قد وضعت نفسها فوق الدستور والمواثيق الدولية، في ظل غياب أي محاسبة سياسية أو قضائية.
شهادات الضحايا… خوف دائم وسمعة ملوثة
عدد من النشطاء الذين تعرّضوا للتوقيف أو المنع من السفر، تحدّثوا عن شعورهم بالعجز أمام سلطة غير خاضعة للقانون، وكيف أن إدراج أسمائهم في “وثائق الاتصال” دمّر سمعتهم، وأثر على حياتهم المهنية والاجتماعية، حتى لو لم تكن هناك أي تهمة حقيقية بحقهم.
المقارنة مع دول أخرى
على عكس لبنان، قامت عدة دول – بينها تونس والمغرب – بإلغاء إجراءات مشابهة كانت تُستخدم خارج الإطار القضائي، واستبدلتها بأنظمة قائمة على أوامر قضائية مُعلّلة ومحددة المدة، مما ضَمِن حماية الأفراد من التعسف وأبقى صلاحية التوقيف حصريًا بيد القضاء.
تحدي القانون… وتواطؤ الصمت
ما يجري ليس مجرد تجاوز إداري، بل تمرد صريح على سلطة الدولة المدنية.
صمت السلطات السياسية أمام هذا التمرد يعكس حالة التواطؤ أو الخوف من نفوذ الأجهزة، ما يجعل هذه الأخيرة تعمل ككيان فوق القانون.
رسالة إلى الحكومة والرأي العام
إن استمرار العمل بـ”وثائق الاتصال” و”مذكرات الإخضاع” رغم إلغائها رسميًا، هو إعلان بأن لبنان لا يزال يعيش عقلية الدولة البوليسية.
المطلوب اليوم…
محاسبة المسؤولين الأمنيين الذين يخالفون قرارات وقف العمل بهذه الإجراءات.
تعويض الضحايا الذين تضرروا منها ماديًا ومعنويًا.
إصدار آلية رقابة قضائية صارمة لضمان عدم تكرار هذه الانتهاكات.
إن دولة تُبقي على أدوات القمع رغم إلغائها رسميًا، تُعلن عن نفسها دولة فاشلة في احترام سيادة القانون.
ولعلّ أكبر خدمة يمكن أن تقدّمها الحكومة الحالية للبنان هي أن تُثبت أن قراراتها ليست بيانات للاستهلاك الإعلامي، بل أوامر مُلزِمة تُطبَّق على الجميع… حتى الأجهزة الأمنية.
* صحافي استقصائي وباحث في الانتهاكات الدولية لحقوق الإنسان