بقلم مكرم رباح
في زمن الأزمات، عادةً ما يلجأ القادة إلى لغة العقل والحكمة؛ لكن في لبنان، يبدو أن بعض “القادة” يفضّلون حرفيًا الغرق في بحر من الهذيان… إن تصريحات رئيس كتلة “حزب الله” النيابية محمد رعد الأخيرة ليست مجرّد موقف سياسي، بل بيان رسمي لإطلاق مشروع “تبليط البحر” الوطني، المشروع الوحيد الذي يبدو أن “حزب الله” مستعد أن يموت من أجله.
حين يُصرّ رعد على أن حزبه “يموت ولا يسلّم سلاحه”، فهو لا يدافع عن لبنان ولا عن سيادته، بل عن الامتياز الحصري لميليشيات مرتبطة بإيران. تكمن المفارقة هنا في أن هذا السلاح لم يُحَرر شبراً جديداً منذ سنوات، لكنه حرّر اللبنانيين من اقتصادهم، ومن استقرارهم، ومن أي فرصة لعيش كريم.
يحلو لـ “حزب الله” أن يُقدّم نفسه على أنه حامي الحمى، لكنه في الحقيقة حامي المخازن… مخازن السلاح وسراديب المتفجرات في قلب الأحياء السكنية. بدءًا من المرفأ حتى الجنوب، من مخازن “الصدف” إلى أنفاق “الموز”، يتفنن “الحزب” في تحويل حياة الناس واستخدامهم كرهائن لمشاريعه. عندما تنفجر هذه المخازن بعناصر الجيش، يبدأ توزيع التهم أو حتى يرفض تحمل المسؤولية، إذ يُعَلِل ذلك فيَنسبه مرة لإسرائيل، ومرة لمؤامرة كَونية، ومرة لخطأ تقني. إلا أن السؤال البسيط الذي لا يجرؤ أحد على طرحه في حضرة رعد هو: ماذا يفعل هذا السلاح في هذه الأمكنة أصلاً؟
وكي لا ننسى، إن خطاب محمد رعد الأخير ليس بجديدٍ في قاموس “حزب الله”. لقد أصبح التخويف من الحرب الأهلية مثل النكتة السمجة التي تُرَدَد في كل مناسبة. لكن هذه المرة، بدا رعد وكأنه يُلوّح للبنانيين بخيارين: إما أن نقبل ببقاء السلاح، أو أن نبدأ فعلًا بتبليط البحر. وبصراحة، إن الخيار الثاني أقل ضررًا.
المضحك المبكي هو أن هذا “الحزب” الذي يهدد الدولة إذا ما اقتربت من سلاحه، هو نفسه الذي يستجدي الوسطاء الأجانب عند أول مواجهة مع إسرائيل. بالأمس القريب، توسّلوا وقف إطلاق النار عبر المبعوث الأميركي، واليوم يقفون على المنابر يُحاضرون في المواجهة والصمود حتى الموت؛ وكأنه خُيل لهم أن الشعب اللبناني يعاني فقدان ذاكرة جماعي.
أما أكثر ما يثير السخرية فهو أن “حزب الله” لا يكتفي بفرض سلاحه على الدولة، بل يطالب الجميع بالتصفيق له والترحيب بذلك. إنهم يريدون من الشعب أن يقتنع بأن وجود ميليشيات مسلّحة تابعة لدولة أجنبية هو أمر طبيعي، بل وضروري! وعندما يرفض أحدهم ذلك، يطلقون الاتهامات بالخيانة والعمالة. هذه اللعبة قديمة، لكن رائحتها فاحت لدرجة أن بعض جمهور “الحزب” لم يعد يقبلها.
مشروع “تبليط البحر” الذي يقوده رعد اليوم هو تجسيد لسياسة “حزب الله” المُمَارسَة منذ عقود: إضاعة الوقت، وإغراق البلد في الأزمات، وتعطيل أي محاولة إصلاح. أما الفارق الوحيد اليوم فهو أن البحر يبقى، على الأقل، جميلًا حتى لو لم يُبلط، في حين أن لبنان دَفَع به سلاح “الحزب” إلى القاع.
من يقرأ رواية تبليط البحر للكاتب اللبناني العظيم رشيد الضعيف، يتذكر المشهد الذي يصف فيه رشيد بيروت وهي تُخفي تحت أضوائها “السوق العمومي” للبغاء، حيث تتجاور الواجهات اللامعة مع القذارة المخفية. هذه الخطابات الأخيرة، تبدو وكأنها دليل سياحي في هذا السوق، لجهة بيع الأوهام بالبراعة نفسها التي تُباع فيها خدمات السوق: كلام مُزيّن على واجهة وطنية، وبضاعة فاسدة في الداخل. “حزب الله”، يعيش على تزييف الواقع وإخفاء ما فعله خلف ستائر الشعارات، فيما الحقيقة يعرفها كل من مرّ قرب “المخازن” التي تُكدّس الموت في أروقة المناطق السكنية. إذا كان رعد يصرّ أن يموت قبل أن يسلّم السلاح، فليتفضل… لكن ليَدَع اللبنانيين يخرجون من نَفَق هذا السوق المظلم الذي حوّله حزبه إلى قدر البلاد.
اللبنانيون اليوم أمام خيارين واضحين: إما أن يواصلوا العيش تحت رحمة ميليشيات مسلّحة تقرر مصيرهم وفق أجندة خارجية، أو أن يضعوا حداً لهذه المهزلة. وكما أن تبليط البحر مهمة مستحيلة، فإن استمرار “حزب الله” في فرض سلاحه على الدولة هو أيضاً مشروع محكوم بالفشل، مهما طال الزمن.
في النهاية، البحر سيبقى على حاله، لكن سلاح “حزب الله” سيسقط. قد ينهار بفعل الضغط الشعبي، أو بفعل عزلة دولية خانقة، أو ببساطة لأنه صار عبئًا حتى على حامليه. وعندها، سيكتشف محمد رعد أن تبليط البحر كان أهون من مواجهة شعب قرر أخيرًا أن يعيش في كنف الدولة لا في ظل ميليشيات.