بقلم نجم الهاشم
بلغت الحاجة بـ “حزب الله” حدّ الاستعانة بأمين عام “الحزب الشيوعي” حنا غريب بعدما شتمه أحد مؤيديه في صحيفة محسوبة عليه وشتم حزبه بسبب دعوته لتقبل التعازي بوفاة زياد الرحباني. في 11 آب زاره نائب رئيس المجلس السياسي في “الحزب” محمود قماطي ليعلن بعد اللقاء أن “الحكومة اللبنانية لن تستطيع أن تسحب سلاح المقاومة، فهذا أمر مستحيل دونه دماء في مواجهة العدو الخارجي”، مؤكدًا أن “المقاومة ليست معزولة أو محاصرة، بل هي جزء من جبهة وطنية عريضة”. ولكن قماطي لم يقل أين هي هذه الجبهة ذلك أن الوقائع على الأرض تشير إلى أن “الحزب” بات معزولًا ومحاصرًا بحيث أن التهديد بـ 7 أيار جديد لم يعد قادرًا على تنفيذه. كما أن حادث انفجار مخزن وادي زبقين التابع له واستشهاد ستة عسكريين كان مؤشرًا لمدى الالتفاف حول الجيش وتحميل “الحزب” المسؤولية حتى قبل اكتمال التحقيق.
تغيّرت الأيام كثيرًا حتى أن المرحلة الحالية لا تشبه مرحلة 1983. إذا كان “الحزب” شهد في تلك المرحلة بداية تأسيسه وصعوده فإنه اليوم يواجه خطر العد العكسي لتسليم سلاحه ولبداية سقوطه بعد سلسلة مواجهات قاسية خاضها وتكبّد فيها خسائر كبيرة لم يعد قادرًا على تعويضها.
كلام قماطي ليس جديدًا. هو تكرار لما يقوله أمين عام “الحزب” الشيخ نعيم قاسم ولعدد آخر من مسؤولي “الحزب”، ولما كان يهدّد به الأمين العام السابق السيد حسن نصرالله. كأن قطع الأيدي والأعناق وكمّ الأفواه التي تطالب بتجريده من سلاحه وبسط سلطة الحكومة اللبنانية على كامل مساحة لبنان باتت أمورًا أكبر من قدرة “الحزب” على تنفيذها.
رأى قماطي أن “الحكومة باعت الوطن، ولن تستطيع تحقيق ما تريد. وأن الشعب اللبناني كله سيتصدى للحكومة إن حاولت تنفيذ قرارها”. ولكن هل فعلًا الشعب اللبناني مع “الحزب” أم مع الحكومة؟ ولو كان الشعب أو نصفه معه هل كانت الحكومة قرّرت في 5 و7 آب نزع سلاحه؟ تهديدات قماطي في هذا المجال لا ترتقي إلى ما يحاول مسؤولون في “الحزب” التذكير به مقارنة بمجريات الأحداث بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. وهذه التهديدات لم تتعدَّ بعد مستوى مسيرات الدراجات النارية في شوارع الضاحية الجنوبية من دون أن تتطور إلى استخدام الأسلحة النارية.
كانوا معه صاروا ضدّه
على وقع شتم “الحزب الشيوعي” وقيادته، استخرج شيوعيون وقائع اغتيال “الحزب” عددًا من قيادات حزبهم. واستعادوا مواجهات ساحة الشهداء في “ثورة 17 تشرين” عندما كانت قيادة الشيوعي مع “الثورة” وكان مؤيدو “حزب الله” يعتدون بالضرب بالعصي على المعتصمين ويحرقون خيمهم.
مثل اللقاء مع “الشيوعي” ينطبق على خطوات أخرى قام بها “الحزب” تجاه حلفاء سابقين كانوا يقفون وراءه وانفكّوا عنه بحيث لم يعد يتّكل إلا على نفسه وجماعته وعناصره. هذه اللقاءات تكشف حالة “الحزب” المتداعية. وهو بما تبقى له من قوة يحاول أن يستقوي على الحكم والحكومة من دون روادع أخلاقية أو سياسية.
عام 1982 فرضت إسرائيل خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت ولكن بعد عام واحد بدأت المعارضة تتشكل للتصدي لعهد الرئيس أمين الجميل ولإسقاط اتفاق 17 أيار الذي لم يوقعه. ما ساعد في عملية قلب الأوضاع وجود حافظ الأسد في سوريا والدعم من الاتحاد السوفياتي، ووقوف رئيس الحزب “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط ورئيس حركة “أمل” نبيه بري وأمين عام “الحزب الشيوعي” جورج حاوي معه. هؤلاء مجتمعين شقوا الجيش اللبناني ألوية طائفية وأخرجوه من الجبل ومن الضاحية وبيروت بعد عملية 6 شباط 1984. اليوم ظروف “حزب الله” مختلفة تمامًا في ظل انعكاس الصورة: سقط نظام الأسد في سوريا. وليد جنبلاط ضد “الحزب”. نبيه بري خائف على مصير الشيعة في لبنان وليس مع مغامرات “الحزب” ويحاذر الصدام معه، ويفضل بسط سلطة الدولة على كل لبنان بواسطة الجيش اللبناني. كما أنه لا يرغب في أن يؤدّي إضعاف “الحزب” ونزع سلاحه إلى إضعاف الشيعة، وجورج حاوي تصدى لـ “الحزب” قبل اغتياله عام 2005.
كلفة الاشتباك مع الجيش باهظة
اليوم لا فرصة أمام “الحزب” لشقّ الجيش. صحيح أنّه يهدّد بمثل هذا الأمر ولكن أكثر ما يمكن أن يبلغه في هذا المجال اختراق الجيش أمنيًا واستقطاب عدد من العسكريين. أي صدام مع الجيش اليوم يجعل “الحزب” محاصرًا داخل مناطق بيئته. بحيث يكون كمن يحاصر نفسه بنفسه. فلا قدرة لديه على فك الطوق ووصل مناطقه ببعضها بوجود القوى المؤيدة للجيش في البيئات السنية والمسيحية والدرزية.
“الحزب” ليس قادرًا أيضًا على تثبيت انتصار جديد على “حركة أمل” والرئيس بري. ثمة من يشمت بـ “الحزب” اليوم لناحية أنّه كان ينتظر وفاة بري لكي يرثه ولكنه انتهى لاجئًا عنده. وما قاله النائب محمد رعد حول انتخاب بري رئيسًا للمجلس حتى بعد وفاته ليس إلّا من قبيل المزايدة، حيث أن بعض مناصري “الحزب” بدأوا يشكّكون بدور الرئيس بري.
و”الحزب” ليس قادرًا على المواجهة كما فعل في مرحلة 2004 و2005. من هناك بدأت خريطة طريق ما يواجهه اليوم من استحقاقات مع صدور القرار 1559 الذي نصّ على نزع سلاحه. يومها أيضًا اعتبر رعد أنّ هذا القرار لا يساوي الحبر الذي كتب به، وأنّه بالنسبة إلى “الحزب” غير موجود. ولكن في الواقع تصرّف “الحزب” عكس ما أعلنه ودخل في مواجهة مفتوحة. بدأ بمحاولة اغتيال الوزير السابق مروان حماده وأكمل باغتيال الرئيس رفيق الحريري وعدد من قيادات قوى 14 آذار.
المحكمة الدولية وحرب تموز
بعد اغتيال النائب جبران تويني في 12 كانون الأول 2005 ومطالبة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بتشكيل محكمة دولية اعتبر “الحزب” أن هذه المحكمة ستكون أميركية إسرائيلية وتصدّى لها بكل قوة وفرض انسحاب الوزراء الشيعة من الحكومة. ولكن الحكومة استمرّت. يومها أيضًا كان الرئيس نبيه بري مدركًا خطورة المرحلة وعاجزًا عن الخروج عن إرادة “حزب الله”، فأقفل أبواب مجلس النواب أمام أي تشريع يمهّد لتشكيل المحكمة عن طريق إقرار نظامها الأساسي، الأمر الذي أدّى إلى إصدارها عن مجلس الأمن. وقيل إنّ بري وجّه الحكومة نحو الذهاب إلى مجلس الأمن مباشرة من دون المرور بالمجلس. وهكذا حصل وصدر القرار 1757 في 30 أيار 2007. ويومها كان إميل لحود رئيسًا للجمهورية وليس جوزاف عون.
“حزب الله” حاول إسقاط المحكمة وقرار نزع سلاحه من خلال حرب تموز 2006 التي استدرج إسرائيل إليها. ولكن اليوم الوضع مختلف تمامًا. نتائج حرب 2024 مغايرة لنتائج حرب تموز 2006. يومها وافق “حزب الله” على القرار 1701 لوقف النار وهو ينص على تنفيذ القرار 1559 وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها بواسطة قواتها الذاتية. ولكنّه أيضًا بقي من دون تنفيذ ليحلّ محلّه اتفاق قواعد الاشتباك. واليوم وافق على قرار وقف النار في 27 تشرين الثاني الماضي الذي ينصّ أيضًا على نزع سلاحه. وكما فعل عام 2006 يحاول القفز فوق هذا القرار وتحميل الحكم مسؤولية مسح نتائج الخطايا التي ارتكبها.
بماذا يختلف 7 آب عن 7 أيار؟
في 5 آب قررت الحكومة تطبيق قرار حصر السلاح بقوى السلطة الشرعية ونزع سلاح “حزب الله” والقوى الأخرى التي لا يزال لديها سلاح. هذا القرار يتجاوز بكثير قرار نزع شبكة اتصالات “الحزب” في 5 أيار 2008. قبل جلسة الحكومة في 5 آب أتاها التهديد بأنّها تريد تكرار عملية 7 أيار التي اعتبرها نصرالله يومًا مجيدًا. ولكنّ الحكومة اتخذت القرار ولم تحصل 7 أيار. لماذا؟ لأن “حزب الله” أضعف. إنه مهزوم ومنهار. قيادة الشيخ نعيم قاسم غير قيادة نصرالله. لا يزال “الحزب” يدفع ثمن اغتيال الحريري. والقرار 1559 مستمر مع القرار 1701.
الجيش اليوم غير الجيش عام 2008. والرئيس جوزاف عون في قصر بعبدا غير إميل لحود والفراغ الذي تركه. كما أن حكومة نواف سلام غير حكومة السنيورة التي كانت تدير الفراغ وتتعرّض للحصار والمطالبة بالاستقالة. هناك حكم وحكومة. القرار الدولي مختلف. هناك ضغط كبير ضد “الحزب” الخارج من هزيمة عسكرية.
في عملية 7 أيار كان “الحزب” مستفيدًا من التجاهل الإسرائيلي ومن قواعد الاشتباك ومتفرّغًا للداخل رافضًا تسليم السلاح. اليوم تأتي الأحداث بعد حرب كان مهزومًا فيها، وبعد سقوط الأسد وضرب أيران.
المواجهة مع الشرعية تخسّر “الحزب” وتضعه في مواجهة الجيش والشعب. وهو في موقع ضعيف. نظام الشرع ضده. محاصر من الشرق ومن الجنوب. وفي الداخل انفض عنه مؤيدوه. متكل على تخويف الحكم لكي يتراجع عن القرار. الرئيس بري ليس معه. غياب الوزراء الشيعة وخصوصًا وزير المال من دون إصدار موقف معارض لقرار 5 آب مؤشر. “الحزب” يواجه أزمة ما بعد الهزيمة العسكرية. حرب إرادات مع الحكم.
أي مواجهة مع الجيش تكون مقدمة لكي يحاصر “الحزب” نفسه. هو يعرف أنه في موقف ضعيف ولذلك يهدد. مسيرات الدراجات أكثر ما يمكنه أن يقوم به. السلاح لا يمكن أن يستخدمه. تقرير الجيش يكون نظريًا. المهم التطبيق. كيف سيتم التنفيذ إذا لم يكن لدى الجيش لائحة بمخازن “الحزب”؟ المهم كسر قرار “الحزب” ونفوذه. “الحزب” أيضًا يعاني من أزمة قيادة. تدخل إيران في موضوع التهديد ورفض تسليم السلاح ليس في مصلحته.
اليوم القصة أكبر. “الحزب” مهزوم أمام إسرائيل. وخائف إذا انكسر بموضوع السلاح أن ينكسر في الانتخابات. طلب من الحكم “يروحوا يبلطوا البحر”. أمام الإصرار على قرار 5 آب يمكن أن يكون الرد عليه بالمثل: روح بلّط البحر.