بقلم محمود شعيب – كاتب وناشط سياسي
شهدت بيروت، في الثالث عشر من آب، زيارة لمستشار الأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، حملت في طياتها رسائل سياسية مكثفة، وجاءت في توقيت بالغ الحساسية، بعد أيام قليلة من إقرار الحكومة اللبنانية خريطة طريق، مدعومة دوليآ وعربيآ وشعبيآ، تهدف إلى تعزيز سيادة الدولة ونزع سلاح المجموعات المسلحة، وفي مقدمتها “حزب ايران”.
منذ لحظة وصوله، بدا أن لاريجاني يواجه أجندة لبنانية واضحة العناوين، عبّر عنها رئيس الجمهورية جوزيف عون بصرامة، حين شدّد على رفض أي تدخل خارجي في الشأن الداخلي اللبناني، مؤكداً أن السلاح يجب أن يكون حصراً في يد الدولة، وأن السيادة الوطنية خط أحمر لا يقبل المساومة. الموقف نفسه انعكس في أروقة السراي الحكومي، حيث أعيد التأكيد على أن القرار السياسي والأمني في لبنان هو ملك مؤسساته الدستورية، بعيداً عن أي وصاية أو تأثير خارجي.
أمام هذه المواقف، سعى لاريجاني إلى تقديم صيغة مغايرة للصورة المتداولة عن الدور الإيراني، نافياً وجود أي تدخل في القرار اللبناني، ومؤكداً احترام طهران لسيادته وقرارات حكومته. وحرص لاريجاني على التوضيح بأن ما يقوله هو التعبير الرسمي عن موقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية، في إشارة إلى أن هذا الموقف وليس أي تصريح آخر هو المعتمد من قبل القيادة في طهران. لكنه، في الوقت ذاته، لم يتراجع عن الثوابت التي تشكل جوهر السياسة الإيرانية في لبنان، إذ جدّد موقف بلاده الرافض لخطة واشنطن، واعتبر “المقاومة” رأس مال للبنان والعالم الإسلامي، داعياً إلى التمييز بين “العدو الصهيوني” و”الصديق المقاوم”.
هذه الازدواجية في الرسائل تكشف أن طهران أرادت عبر الزيارة احتواء التوتر الذي خلفته تصريحات إيرانية سابقة، من دون تقديم اعتذار صريح أو تعديل جوهري في سياساتها. فهي من جهة تخاطب الدولة اللبنانية بلغة الاحترام والتفاهم، ومن جهة أخرى تؤكد التزامها برعاية ودعم حزبها وموظفيها، في موقف يعكس استراتيجية إيرانية ثابتة تقوم على الموازنة بين الخطاب الدبلوماسي والمصالح الجيوسياسية.
لا شك أن المواقف الصلبة التي صدرت عن الرئاسة والحكومة في بيروت، تشكل رسالة واضحة بأن لبنان الرسمي يرفض منطق تعدد المنظمات المسلحة، ويتمسك بحصرية القوة والسلاح بيد مؤسسات الدولة الشرعية. غير أن الزيارة أثبتت أيضاً أن إيران، رغم نفيها التدخل، لن تتخلى عن دورها كحاضنة وداعمة لأتباعها”، ما يجعل الحديث عن تغيير في المعادلة القائمة أقرب إلى الأمنيات منه إلى الواقع القريب حسب وجهة النظر الإيرانية.
ارتباط الزيارة بالسياق الإقليمي
تأتي هذه الزيارة في خضم إعادة تشكيل التوازنات في الشرق الأوسط، حيث تتقاطع مصالح إيران والولايات المتحدة على أكثر من جبهة، من الخليج والعراق إلى سوريا ولبنان. وبقدر ما تسعى واشنطن إلى تقليص النفوذ الإيراني في الساحة اللبنانية عبر دعم الدولة وتجهيز الجيش، تعمل طهران على تثبيت حضورها عبر “حزب الله” كذراع عسكرية وسياسية. من هنا، تبدو زيارة لاريجاني جزءاً من سباق إقليمي على تثبيت قواعد الاشتباك، ومحاولة لتقديم صورة أكثر انضباطاً عن الدور الإيراني، بما يتيح لطهران الحفاظ على مواقعها من دون استفزاز مباشر يجرّ إلى مواجهة أوسع.
في المحصلة، لم تكن زيارة علي لاريجاني إلى بيروت اعتذاراً، بل أقرب إلى محاولة لتلطيف الأجواء وتوضيح الموقف الرسمي الإيراني، من دون المساس بالثوابت التي تراها طهران جزءاً من أمنها الإقليمي وأدوات نفوذها. وهو ما يضع لبنان أمام تحدٍّ مستمر: كيف يحافظ على سيادته ويحصّن قراره الوطني، في ظل تداخل المصالح الإقليمية وتشابك خطوط النفوذ على أرضه.