#الشيعة في #لبنان : بين إرث الدولة وهيمنة #السلاح

بقلم السّيد حيدر الأمين

ما الذي جرى للشيعة في لبنان؟ كيف تحوّل الشيعة من مكوّن وطني أصيل، ساهم في بناء الكيان، إلى طائفة يُراد لها أن تعيش داخل الأسوار، محكومة بالسلاح لا بالقانون، وبالولاء الحزبي الطائفي لا بالمواطنة؟

منذ نشأة لبنان الكبير، لم تكن الطائفة الشيعية على هامش الكيان، بل كانت ركيزة من ركائز نسيجه الوطني، بثقلها الجغرافي والبشري والثقافي. لكنها، رغم ذلك، عانت من تهميش طويل، لم يدفعها إلى الانعزال، بل إلى المطالبة بالعدالة والاندماج في مشروع الدولة.

وقد بلغ هذا المسار ذروته مع الإمام موسى الصدر، الذي أعاد الاعتبار للطائفة من موقع الشراكة لا الغلبة، ومن بوابة الوطن لا عبر مشروع خارجه. غير أن هذا المسار، في لحظة ما، اختُطف، وشُوّه، وحُوّل إلى نقيضه.

الصدر: الطائفة في خدمة الوطن

جاء الإمام الصدر في لحظة وطنية مفصلية، لا ليبني طائفة فوق الدولة، بل ليُعيد للطائفة موقعها داخل الدولة. نادى بالعدالة الاجتماعية، وبرفع الحرمان، لكنه لم يدعُ إلى الانفصال عن الكيان، بل إلى الانخراط فيه. قال بوضوح: “لا خلاص لطائفة دون خلاص الوطن كله.” رفض السلاح خارج الدولة، ودعا إلى تقوية الجيش، وربط أي مقاومة ضد الاحتلال بإطار الشرعية الوطنية. كان خطابه مدنيًا، وطنيًا، عابرًا للطوائف، مستندًا إلى مدرسة النجف التي تُفرّق بين المرجعية الدينية والسلطة السياسية.

مشروعه كان وطنيًا لبنانيًا، عربيًا، عقلانيًا، منفتحًا. لا يعترف بسلطة “ولي فقيه” خارج الحدود، ولا يعتبر الطائفة ذراعًا لأي محور. لذلك، فإن ما جاء بعده من مشاريع تسلطية باسم الطائفة هو، في جوهره، انقلابٌ على الصدر لا امتداد له.

من مدرسة الإمام… إلى مشروع غريب عن الشيعة اللبنانيين

منذ اختفاء الإمام موسى الصدر عام 1978، غاب عن الساحة صوت الاعتدال الذي شكّل ركيزةً في المسار الشيعي اللبناني، المتصل بجذور عميقة تمتد من سيرة الأئمة، إلى إرث النجف وخصوصية لبنان. لكن، ومع تحولات المنطقة في أواخر

السبعينيات وبداية الثمانينيات، بدأ خطاب جديد يتسلّل إلى البيئة الشيعية، لا يُعبّر عن هويتها التاريخية ولا عن أولوياتها الوطنية. فحلّ منطق الإقصاء محلّ التنوع، وصار التخوين يسبق الحوار، وتحول الحياد إلى تهمة. ظهرت تنظيمات مسلّحة، لا تُخضع قراراتها للمؤسسات الدستورية، ولا تُحاسب أمام الشعب. وهكذا، تمّت مصادرة الطائفة الشيعية المعروفة بولائها الوطني لصالح مشاريع لا تنتمي إلى تاريخها ولا إلى واقعها. لقد كان الاعتدال، منذ البدايات، ركنًا في الفقه والموقف والسلوك. وهو ما جسّده الأئمة في مقاربتهم للحكم والمجتمع، وما حملته مدارس النجف وجبل عامل، وما عبّر عنه الإمام الصدر في دعوته لبناء الدولة لا الجماعة المغلقة.

من تحرير الأرض إلى تعطيل الدولة

الاحتلال الإسرائيلي اندحر من لبنان عام 2000. لكن، بدل أن تُدمج المقاومة في الدولة، لم تُناقش حتى اليوم استراتيجية دفاعية وطنية جامعة. بقي السلاح خارج الدولة، وفوقها، وضدها أحيانًا، كلما تعارضت قراراتها مع مصالح أصحاب السلاح. باسم “المقاومة”، عُطّلت الحكومات. وباسم “الحماية”، عُلّق الدستور. وباسم “الدفاع عن الطائفة”، عُزلت عن محيطها، بل عن فكرة الوطن نفسه.
والنتيجة؟ سلاح يُهدد الداخل أكثر مما يردع الخارج. وطائفة تُختزل في جهاز حزبي، لا يسمح بالاختلاف، ولا يقبل النقاش.

الطائفة الشيعية بين التعدد المُصادَر والتمثيل الاحتكاري

ما يُقدَّم اليوم على أنه “التمثيل الشيعي” هو، في الواقع، احتكار للقرار، ومصادرة للتعدد، وتطويع للهوية.
الطائفة ليست حزبًا، ولا حركة، ولا جهازًا أمنيًا. هي نسيج اجتماعي وثقافي وتاريخي، يتسم بتنوع واسع، وآراء متعددة، وأفق وطني مشرع. لكن هذا التعدد تم قمعه بقوة السلاح، وشيطنته عبر الإعلام الحزبي، وخُنق داخل الطائفة نفسها باسم “الوحدة”. في حين أن الوحدة التي لا تسمح بالاختلاف، ليست وحدة بل استبداد.

فائض القوة… ومأزق الشرعية

السلاح الذي لا يُنظَّم لا يُنتج شرعية، بل يخلق عزلة. والطائفة التي تُختزل في فائض القوّة، تفقد قدرتها على التأثير الوطني. والأخطر، أن مشروع الوصاية الذي يدّعي حمايتها، يُقزّمها ويطوّقها بالأسوار. اليوم، لم تعد المشكلة في “حرمان الشيعة”، بل في استخدامهم درعًا لمشروع خارجي.

لم يعد السؤال: “ما حق الطائفة؟”، بل: “لمن يُوظَّف هذا الحق؟”.

لبنان لا يُبنى بالسلاح، بل بالشراكة

الوطن لا يُحكم بمنطق الغلبة، ولا يُحمى بالاحتكام إلى السلاح. كلما رُفضت دعوة الحوار الوطني، تزعزعت الدولة. وكلما فُرضت قرارات من خارج المؤسسات، تقوّض العقد الاجتماعي. الطائفة الشيعية ليست أزمة. الأزمة فيمن يحتكر صوتها. ليست خصمًا للدولة، بل رهينة من يتلطّى خلفها ويحكم باسمها.

الخاتمة، استعادة مشروع الإمام الصدر

لقد أدى الانقلاب على مشروع الإمام الصدر إلى حشر الطائفة في زاوية حرجة، محرومة من تنوعها، ومجردة من دورها الوطني، ومستخدمة كوسيلة في صراع لا يشبهها.

لكن هذا المسار لم يخلُ من مقاومة فكرية وأخلاقية داخل البيئة الشيعية نفسها. فقد واصل عدد من العلماء والمفكرين الشيعة في لبنان نهج الإمام الصدر، متمسّكين بمشروع الدولة، ورافضين اختزال الطائفة في سلاح أو حزب. دعوا إلى انخراط كامل في الكيان اللبناني، وإلى أن يكون الشيعة ركيزة من ركائز الوطن لا ملحقًا به. حذّروا من الانزلاق في الولاءات العابرة للحدود، ورفضوا تحويل الطائفة إلى أداة في مشاريع إقليمية، مؤمنين أن حماية الطائفة لا تتحقق إلا بحماية الوطن، وأن الصوت المختلف داخلها هو ضرورة وطنية، لا خيانة.

هؤلاء وغيرهم، هم الامتداد الحقيقي لمشروع الإمام الصدر: انتماء وطني، عروبي، مدني، شريك في بناء الدولة، لا وصاية عليها. واليوم، إذ يقف الشيعة بأمسّ الحاجة إلى مرجعيةٍ عاقلة، عالِمة، معتدلة، وطنية، ذات امتداد عربي وإسلامي، فإن استعادة هذا المسار تمثّل حجر الزاوية لخروج الطائفة من حالة الحصار الداخلي والخارجي التي وُضعت فيها، وإعادتها إلى موقعها الطبيعي كشريك أساسي في بناء لبنان.

لبنان لا يُبنى إلا بالشراكة. ومن يظن أنه قادر على تفجير الدولة لحماية سلاحه، سيخسر السلاح، والطائفة، والوطن… معًا.

اخترنا لك