تراجع #التفكير النقدي وصعود #الغباء الجماعي : لماذا أصبحنا نصدق أي شيء… ونكرر الأخطاء نفسها؟

"المعرفة بلا تفكير نقدي تتحول إلى وقود للفوضى"

بقلم حسن م. منيمنة
@HMeneimneh

في زمنٍ كانت فيه المعلومة سلعة نادرة، كان الحصول عليها يستحق الجهد والبحث، وكان الناس يمحّصونها قبل أن يصدقوها أو يبنوا عليها قراراتهم. أما اليوم، فقد صار الخبر يصلنا قبل أن نفكر فيه، ونصدقه قبل أن نفهمه، ونشاركه قبل أن نتأكد من صحته، بل ونحمله ونردده كأنه حقيقة مطلقة.

المفارقة أنّنا نعيش في عصر المعرفة… لكننا نشهد تراجعاً مخيفاً في مهارة التفكير النقدي (Critical Thinking)، وصعوداً لظاهرة قد يسميها البعض – دون مبالغة – “الغباء الجماعي” (Collective Stupidity).

التفكير النقدي: المهارة التي تلاشت من حياتنا

التفكير النقدي ليس تعقيداً فلسفياً ولا رفاهية فكرية، بل هو ببساطة القدرة على طرح الأسئلة الصحيحة قبل أن نتبنى فكرة أو موقفاً. في علم النفس، يُصنَّف التفكير النقدي ضمن وظائف الدماغ التنفيذي “Executive Function”، أي تلك المنطقة التي تساعدنا على التروي والتحليل قبل اتخاذ القرار.

“حين يغيب التفكير النقدي، يتحول العقل إلى مرآة تعكس لا أداة تحلل”

غياب هذه المهارة يجعل الإنسان عرضة للتلاعب، والأسوأ أنّه حين يعمّ على نطاق واسع، يتحول المجتمع إلى قطيع يتبع أي صوت مرتفع أو شعار عاطفي.

من التفكير الفردي إلى الغباء الجماعي

لفهم الظاهرة، يكفي أن ننظر حولنا في لبنان والعالم العربي لندرك أن المشكلة ليست نقص معلومات، بل وفرتها المفرطة.

1- تسونامي المعلومات “Information Overload”

قبل عقود، كانت المعلومة تمر عبر قنوات محدودة – صحف، إذاعات، كتب – وكان الوصول إليها يعني غالباً أنها خضعت للتحرير والمراجعة.

أما اليوم، فنحن نعيش في ما يسميه علماء النفس “التشبع المعرفي” “Information Overload”، من رسائل “واتساب” إلى فيض المنشورات على “فيسبوك” و”تويتر”، أصبحت أدمغتنا تتعامل مع المعلومات كما يتعامل شخص عطشان مع ماء مالح: يشرب أكثر لكنه يزداد عطشاً. فتعجز أدمغتنا عن معالجة الكم الهائل من البيانات، فنلجأ للتفكير السطحي توفيرا للطاقة والوقت.

في لبنان مثلا، عند انتشار شائعة اقتصادية، يندفع الناس إلى الصرافات أو الأسواق بلا تحقق، فتتحول الشائعة إلى أزمة حقيقية. ويندفع الناس إلى المخازن والصيدليات للتموين المفرط عند اقل إشاعة حول الحرب الحاصلة لا محالة.

2- التحيزات المعرفية “Cognitive Biases”

من أكبر الأوهام التي نعيشها أننا “نفكر بعقلانية”. الحقيقة أن أدمغتنا مليئة بالتحيزات التي تلوّن نظرتنا للعالم. ومن أبرزها تحيز التأكيد (Confirmation Bias)، حيث يبحث الشخص عن المعلومات التي تدعم معتقداته، ويتجاهل ما يناقضها.

“التحيزات تجعلنا نرى ما نريد، لا ما هو موجود”

في النقاشات السياسية اللبنانية، يقرأ شخصان الخبر نفسه، لكن كل واحد يراه دليلاً على صحة موقفه السياسي، حتى لو تناقض ذلك منطقياً.

3- ضغط الجماعة “Group Pressure” والخوف من العزلة.

أثبتت تجربة آش “Asch Experiment” الشهيرة في الخمسينيات أن الناس قد يختارون إجابة خاطئة لمجرد أن الأغلبية اختارتها.

يظهر ذلك في القضايا الطائفية والسياسية في لبنان ، قد يعرف الفرد أن خطاباً معيناً مبني على مغالطات أو تضليل، لكنه يكرر ما يقوله “المحيط” خوفاً من أن يوصف بالخيانة أو الجهل أو “قلة الوفاء” ويتجنب الفرد التعبير عن رأي مخالف خوفاً من الإقصاء أو النبذ.

4- هيمنة العاطفة على المنطق “Emotion over Logic”

بحسب “دانيال كانيمان” “Daniel Kahneman” الحاصل على نوبل، يعمل دماغنا بطريقتين: التفكير السريع “Fast Thinking” الانفعالي، والتفكير البطيء “Slow Thinking” التحليلي.

وسائل التواصل الاجتماعي تصمم محتواها لإثارة التفكير السريع عبر صور مثيرة وعناوين صادمة، ما يجعلنا نتفاعل مع الغضب والخوف قبل التحقق من صحة المعلومة.

الغباء الجماعي: المجموع أقل ذكاءً من أفراده

الغباء الجماعي “Collective Stupidity” لا يعني أن كل فرد غبي، بل أن ديناميكية الجماعة تؤدي إلى قرارات أقل جودة وحكمة مما لو فكر كل فرد بمفرده.

“العقل الجماعي قد يكون أحياناً أقل ذكاءً من أعضائه”

في لبنان، مثال واضح هو سلوك تخزين الدولار في المنازل أثناء الأزمة، ما أدى إلى ندرة العملة وارتفاع سعر الصرف، مما فاقم الأزمة بدلاً من حلها، كذلك الأمر في تخزين الدواء والسلع.

دور التكنولوجيا في تضخيم الظاهرة

الخوارزميات “Algorithms” التي تدير فيسبوك و”تويتر/أكس ويوتيوب” لا تهتم بالحقيقة، بل بما يبقيك أطول وقت ممكن على الشاشة. النتيجة؟ تُعرَض عليك المحتويات التي تؤكد قناعاتك، وتُعزل عن الآراء المخالفة. حتى خوارزميات منصات الذكاء الاصطناعي كالشات جيي بي تي تتجاوب مع افكارك وشخصيتك لتعطيك نتائج ترضيك وتبقيك وفيا لها وسعيدا بها، فتسألك دائما “هل انت راضٍ عن اجابتي؟”

دراسة من جامعة MIT وجدت أن الأخبار الكاذبة “Fake News” تنتشر أسرع بنسبة 70% من الأخبار الصحيحة على تويتر/ اكس، لأنها أكثر إثارة. وفي منطقتنا، كثيراً ما تتحول هذه الأخبار إلى “حقائق” متداولة قبل أن يدحضها أي مصدر موثوق. وعلى كثرة وسرعة وتيرة الاخبار قد يسقط الرجوع الى تصحيح اي خبر قد فات فتسقط الحقائق الواحدة تلو أخرى.

نفسياً… لماذا ننجرف؟

الانتماء إلى مجموعة يمنح شعوراً بالأمان حتى لو كانت معتقداتها خاطئة. هذا ما يسميه علماء النفس التنافر المعرفي “Cognitive Dissonance”، أي تجاهل الحقائق المزعجة للحفاظ على الانسجام النفسي مع المحيط.
في مجتمع منقسم مثل لبنان، حيث الولاء الطائفي أو السياسي غالباً أقوى من الولاء للحقيقة، الاعتراف بخطأ “المجموعة” قد يعتبر خيانة، مما يعزز التمسك بالأفكار الخاطئة وانقسامات حادة متعصبة.

أمثلة من واقعنا العربي

• الأزمات الصحية: خلال جائحة كورونا، انتشرت نصائح غير علمية – مثل شرب ماء ساخن لقتل الفيروس – أكثر من إرشادات وزارات الصحة.
• الانتخابات: حملات سياسية في المنطقة اعتمدت على إثارة الخوف أو الكراهية بدلاً من عرض برامج واقعية.
• الاقتصاد: شائعات عن إفلاس بنك أو انهيار عملة تؤدي إلى سحب جماعي للأموال، ما يخلق أزمة حقيقية من لا شيء.

كيف نستعيد التفكير النقدي؟

رغم الصورة القاتمة، يمكن مواجهة الظاهرة عبر:
1. تعليم الشك البنّاء “Constructive Skepticism”: جعل السؤال “كيف أعرف أن هذا صحيح؟” عادة يومية.
2. التحقق من المصادر “Source Verification” قبل مشاركة أي خبر.
3. فتح مساحات للحوار الآمن “Safe Dialogue Spaces” لاختلاف الآراء دون خوف من الإقصاء.
4. إبطاء استهلاك المعلومات “Slow Information Consumption” والتركيز على التحليل العميق.

المعرفة وحدها لا تكفي

“المجتمعات لا تتقدم بما تعرفه، بل بما تعرف أن تستخدمه”

الخطر الحقيقي ليس في غياب المعلومات، بل في غياب القدرة على استخدامها بحكمة. المعرفة بلا تفكير نقدي تتحول إلى أداة للارتباك والفوضى، بينما الحكمة هي ما يحوّل المعلومة إلى قرار صائب وخلاق ومنه تقدم المجتمع.

في نهاية المطاف، أمامنا خياران: أن نترك أنفسنا لموجات الغباء الجماعي، أو أن نتعلم السباحة ضد التيار، مستعينين بالبوصلة الأهم في هذا العصر… التفكير النقدي.

اخترنا لك