قتل شهود الإثبات الصحافيين والتفرغ لتنفيذ الجريمة…

لا تمانع اميركا بتهجير الفلسطينيين وقيام "إسرائيل الكبرى"

بقلم زهير هواري

كان المخرج الشهير الفرد هيتشكوك في أفلام الرعب التي يطلقها، يعمد قبل تنفيذ القاتل الجريمة التي يدور حولها الفيلم إلى تدبير قتل الشهود المحتملين، الذين قد تقود شهاداتهم إلى تجريم القَتَلة. هذه الحبكة التي اقتبسها هيتشكوك عن ممارسات منظمات المافيا في اميركا، باتت شبه تقليد بالنظر إلى أن الجريمة تبدأ عمليا منذ لحظة تنفيذ اعدام الشهود، بعدها تصبح الوقائع متسلسلة وذات سياق واضح وتطال الضحايا. يمكن نقل المنحى هذا إلى المجال السياسي كأسلوب لإخفاء معالم الجريمة التي يجب أن تنفذ لاحقا من دون شهادة الشهود الذين يصبحون في عداد الأموات.

في الحالة الفلسطينية الراهنة يمكن وصف الصحافيين الفلسطينيين بأنهم الشهود على الجريمة الموصوفة وحرب الإبادة المعلنة والتهويد والاستيطان الصهيوني منذ قرابة العامين في قطاع غزة والضفة أيضا. إذا اضفنا الصحافيين الخمسة الذين جرت تصفيتهم مؤخرا في خيمتهم قرب مستشفى الشفاء الطبي في مدينة غزة يصل العدد الإجمالي إلى ما بين 200 صحافي، بموجب إحصاء منظمة “مراسلون بلا حدود” في أوائل تموز/ يوليو و237 صحافيا تبعا لتقديرات المراسلين في غزة منذ بدء الحرب. وقد جرى قتل هذا العدد الذي لم يُسجل مثيله في الحروب السابقة بدم بارد. وبالطبع لم تعبأ إسرائيل بهذه المذبحة ما دامت تتمتع بالحصانة الممنوحة لها من الموقف الأميركي الفاضح.

الصحافي وتهمة الإرهابي

والتمهيد لارتكاب الجريمة الأخيرة حدث قبل أشهر من التنفيذ بواسطة غارة جوية من خلال توجيه الاتهام لمجموعة صحافيي “الجزيرة” المستهدفين بأنهم ارهابيون. وترافق ذلك مع توجيه جيش الاحتلال تهديدات للإعلامي أنس الشريف ورفاقه الخمسة المرابطين أمام مستشفى الشفاء حيث تتقاطر أعداد الضحايا والجرحى من أبناء الشعب الفلسطيني في كل لحظة من اليوم. المتحدث العسكري الإسرائيلي للإعلام العربي أفيخاي أدرعي، ومنذ يوليو/ تموز 2024، نشر مقاطع فيديوهات اتهم فيها الشريف بالانتماء لكتائب القسام منذ العام 2013، وبأنه يستخدم عمله الصحافي للتغطية على عمل عسكري، كما بث لقطات لبكائه أثناء تغطيته لمضاعفات مجاعة غزة وموت الأطفال جراء فقدان الحليب والمستلزمات الأساسية. جيش الاحتلال اعترف رسمياً بتنفيذ الغارة ومصرع مجموعة الصحافيين، لكنه برر استهداف الشريف مع رفاقه باتهامه أنه “إرهابي” و”قائد خلية في حركة حماس” و”ينتحل صفة صحافي”، وزعم أنه كان مسؤولاً عن “هجمات صاروخية على المدنيين الإسرائيليين.”

هذه الاتهامات، التي لم يقدم الجيش أي أدلة ملموسة لدعمها، لا يُصدر مثلها للمرة الأولى، إذ دوما يكون الضحية هو المسؤول عن مقتله. الجميع أدرك أن الاتهامات مقدمة لارتكاب الجريمة بمن فيهم انس نفسه الذي كتب وصيته في 6 نيسان 2025 وجاء فيها: “…إن وصلَتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل نجحت في قتلي وإسكات صوتي…”. ونجاح القتل ليس أمرا غير مألوف في السياسة الإسرائيلية، فقد سبق أنس ورفاقه قوافل من الإعلاميين الذين تحددت جريمتهم بكشف النقاب عن عمليات القتل التي تتم دون رفة جفن أو ضمير أو احترام للأعراف والقوانين والمواثيق الدولية التي تحمي الصحافيين وكذلك المدنيين خلال الحروب.

ومن المعروف أن الصحافيين في القطاع لم يعودوا منذ بدء العدوان يملكون مقارا وتجهيزات لوجستية للقيام بعملهم الإعلامي، كما خسروا إمكانيات التنقل بين المناطق والأحياء المستهدفة بالقصف، باعتبار أن شارة الصحافة التي يضعونها على صدورهم وظهورهم وقبعاتهم، لم تؤمن الحماية لرفاقهم الذين سبقوهم على درب الشهادة، لذلك رابطوا أمام المستشفيات القليلة الباقية. ومن المعروف أن إسرائيل تفرض قيودا صارمة على دخول الصحافيين الأجانب إلى القطاع، ما يدفع وسائل الاعلام الدولية في شتى دول العالم أن تعتمد على التغطيات التي يقدمها المراسلون الفلسطينيون الذين تعرضوا ويتعرضون لعمليات انتقام إسرائيلية بهدف إخفاء أصواتهم، أو منعهم من أداء مهامهم وايصال صوت وصور الضحايا إلى الرأي العام.

لماذا الآن عملية القتل

لم تحدث هذه الجريمة بمحض الصدفة، أو نتيجة خطأ عسكري كما يحدث في الحروب. بالعكس تماما جرى تنفيذ الجريمة متلازمة مع ما سبق وقررته الدولة العبرية عبر الكابينت من خطة للسيطرة على ما تبقى من مدينة غزة والمخيمات الوسطى تمهيدا لاحتلال القطاع بأكمله. وهو ما أثار ردود فعل داخلية ودولية شاجبه. فالمتظاهرون في شوارع تل ابيب وباقي المدن يطالبون بالوصول إلى توقيع صفقة توقف الحرب وتطلق سراح الاسرى والمعتقلين. لذلك اعتبروا الخطة بأنها تنهي أي بارقة أمل باستعادة من تبقى من الرهائن أحياء. وحتى الجيش رأى فيها مغامرة غير محسوبة من شأنها أن تغرق وحداته المنهكة في رمال القطاع المتحركة. أما الأوساط الدولية والأممية فقد اعتبرتها 24 دولة أوروبية وكندا وأميركية جنوبية بمثابة كارثة وحرب دائمة كما وصفها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، واستكمال للمجزرة التي يتعرض لها الفلسطينيون والمتواصلة بأشكال متنوعة منذ 22 شهرا، ثم إنها لا تقدم حلا للوضع الذي يبقى مرهونا بالتوصل إلى حل الدولتين بدليل توسع قاعدة التوجه العالمي نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية. في المقابل، تكررت الدعوات لإسرائيل إلى إنهاء الحرب على غزة الآن والتوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار.

وكان مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغّر قد وافق صباح الجمعة الفائتة، على اقتراح نتنياهو بالمضي قدماً في احتلال الجزء المتبقي من القطاع، في تطبيق للأجندة الأكثر تطرّفاً للحكومة والشارع اليميني الإسرائيلي، والمتعارضة مع رؤية قيادة الجيش والنخبة الأمنية سابقاً ولاحقاً، والتي لا ترى أي فائدة عسكرية تذكر من الخطوة بعد تحقيق الأهداف الممكنة كافة، وتهدد حياة الأسرى الإسرائيليين، وتوقع المزيد من التدمير والضحايا المدنيين. وهذه الحال قد تفتح الطريق على تدحرج للأوضاع المتفجرة باتجاه حرب أبدية ليس فقط في قطاع غزة والضفة الغربية أيضا مع تسارع خطوات التهويد والاستيطان والضمّ بل على المنطقة.

وبالطبع تهدف مثل هذه السياسة إلى قطع الطريق على حل الدولتين الذي باتت تؤيده معظم دول العالم. ومع ربط ذلك مع مخطط التهجير من الضفة والقطاع ومشروع دولة إسرائيل الكبرى كما عبر عن الطموح لتحقيقه نتنياهو مؤخرا وردود الفعل التي بادرت إليها كل من الأردن ومصر وجامعة الدول العربية والعديد من الدول الأوروبية، يصبح توسيع الحرب نحو المنطقة برمتها واردا في ظل تبني سياسات عدوانية مباشرة تجاه سوريا ولبنان بدليل الغارات اليومية والتوسع الإسرائيلي جنوبي البلدين (سوريا و لبنان)، وهو ما يترافق مع المباشرة ببناء المزيد من المواقع العسكرية، ما يعني احتلالا طويل الأمد. وهذا وسواه من السياسات يُبقي المنطقة في حالة فوضى وانهيار على مختلف الصعد. أما الولايات المتحدة فقد صمت آذانها عن المخاطر التي يحملها كلام نتنياهو وخطة حكومته على سلام وأمن المنطقة والعالم.

أهداف نتنياهو المعلنة والمضمرة

ولا شك أن قرار الحكومة في الاستجابة لخطوة نتنياهو جاء إرضاءً من نتنياهو لحلفائه المتطرّفين ، خصوصا وأن حليفيه بن غفير وسموتريتش يلوحان دوما بالانسحاب من حكومته في حال تهاونه مع حماس ومنظمة التحرير والسلطة والشعب الفلسطيني برمته، لذلك حرص ويحرص على تحصين الحكومة من السقوط قبل نهاية الدورة الصيفية للكنيست، ما يضمن له البقاء في السلطة لأبعد مدىً زمني ممكن. ويتحقق ذلك من خلال فتح جبهات جديدة كالمواجهة التي تتحدث عنها مجلة “فورين أفيرز” مع ايران في غضون المدى المنظور، أي في غضون الأشهر الثلاثة المقبلة. وتعتبر إسرائيل أنها تخوض الآن 9 حروب وتتجه نحو إطالة أمد هذه الحروب للتهرّب من لجنة التحقيق الرسمية في أحداث 7 تشرين أول/ أكتوبر 2023 ، وتسويف موعد الانتخابات العامة التي تُجمع استطلاعات الرأي على خسارة الائتلاف الحكومي الحالي فيها. فضلا عن تأجيل التحقيق في القضايا الأربعة العالقة أمام المحاكم الإسرائيلية، والتي قد تقود نتنياهو إلى السجن، وبالتالي خسارة موقعه ومستقبله السياسي. وهذه تدفعه دوما إلى تمديد الحروب على القطاع وخارجه على صعيد المنطقة، انطلاقا من معطى وتفسير توراتي، وبالتالي إيجاد التبرير لإرجاء جلسات المحاكمة.

والملفت في هذا التوجه هو إعادة ترتيب الأولويات الخمس التي سبق وأعلنتها حكومة نتنياهو، فللمرة الأولى يتقدّم نزع سلاح حماس على استعادة الأسرى الأحياء منهم والأموات، مع الإشارة إلى نزع سلاح القطاع كله، وفرض السيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة عليه، وتسليمه لحكومة أو إدارة مدنية – بإشراف عربي دولي – لا وجود لكل من حماس أو السلطة الفلسطينية ضمنهما. لكن هناك ما هو مضمر في خطة نتنياهو ويتعلق بتهجير سكان القطاع. فمن المعروف أن إعادة احتلال القطاع وحشر جموع الفلسطينيين في مكان معلّب وضيق من شأنه في حال فتح معابر على مصر والأردن أن يدفع بكتلة سكانية لا تقل عن مليون نسمة إلى مغادرته مباشرة، بعدما أصبح البقاء فيه متعذرا، مع فقدان الطعام والشراب والاستشفاء والأمن بطبيعة الحال.

ومن المعروف أن الجيش الإسرائيلي يسيطر حاليا على 75 بالمائة من مساحة القطاع، ويحشر أكثر من 2 مليون فلسطيني في معازل أو معسكرات اعتقال في الجنوب والوسط والشمال ضمن منطقة لا تتعدى مساحتها الـ 90 كلم مربع تقريباً. ومخطط التهجير هذا الذي لا يبوح به المسؤولون الإسرائيليون هو ما يقضي بمنع دخول المساعدات الغذائية وتشديد الحصار على مدينة غزة لإرغام أكبر كتلة سكانية والتي تعادل نصف سكان القطاع على المغادرة في غضون الفترة المقبلة. ومثل هذا المخطط يعني تفريغ ثلث مساحة القطاع، في غزة والشمال، تماماً من السكان وتحويلها عملياً إلى منطقة عازلة مفتوحة – نموذج رفح – وبالتالي حشر 2 مليون في المنطقة الوسطى والمواصي بين رفح وخان يونس؛ أي في أقل من سدس مساحة القطاع تقريباً، ونظرياً إبقاء الباب مفتوحاً أمام مخططات الاستيطان والتهجير.

ضوء أخضر اميركي

والحقيقة أن نتنياهو بعد أن حصل على الضوء الأميركي الأخضر لتنفيذ خطته لم يعبأ بموقف الجيش والرأي العام الداخلي. فالجيش أعلن معارضته القرار وطلب عدم اقتحام المناطق المستهدفة؛ والاكتفاء بتطويقها ومحاصرتها، وإجبار أهلها على التوجه نحو التهجير القسري، مع إعادة السيطرة على معبر نتساريم الذى يفصل القطاع من الحدود شرقاً إلى البحر غرباً، إضافة إلى رفض الاشراف على شؤون كتلة من 2 مليون فلسطيني في الوسط والمواصي. وترى قيادة الجيش أنها تفتقد للقوى البشرية اللازمة للاحتلال الكامل، بدلاً من السيطرة الفعلية على المحاور والمنطقة العازلة، حيث تحتاج إلى 250 ألف جندي على الأقل – مع احتمال ارتفاع العدد إلى 450 ألف تقريبا. وهذا رقم كبير في ظل استنزاف طاقات جنود الاحتياط والنظاميين، ومواصلة تهرب المتدينين – الحريديم – من الخدمة. وكان مئات المسؤولين الأمنيين والعسكريين السابقين قد توجهوا برسالة للرئيس دونالد ترامب – جرى تقديمهم أنهم يملكون مجتمعين خبرة حوالي 1000 سنة من الخدمة – أكدوا خلالها استنفاذ الخيار العسكري أغراضه، بعد تدمير القطاع ومنعه من تهديد إسرائيل، وإشغاله بنفسه لسنوات بل عقود طويلة.

يبقى القول إن ردود الفعل الفلسطينية بين السلطة وحماس تجمع على رفض القرار، وتحذر من المنحى التوسعي الهجومي الصهيوني الذي يتجاوز فلسطين بأكملها ليصل إلى كل من سوريا ولبنان والأردن ومصر ويصل إلى العراق كما يفهم من تصريح نتنياهو الأخير للقناة 24 الاسرائيلية حول إسرائيل التوراتية الكبرى. وكلاهما يطالبان بالتدخل والضغط لكبح جماح هذا الهجوم. لكن الخطوة الفلسطينية الأساسية يجب أن تتمثل بتطبيق الاتفاقات المشتركة السابقة بين القوتين الفلسطينيتين الاساسيتين، والتوصل إلى برنامج وخطة عمل مشتركة تقوم على تسليم مهمة التفاوض للسلطة والقيادة الرسمية لمنظمة التحرير، والتوافق على سيناريو اليوم التالي وما يليه من خطة اعمار وتشكيل إدارة مؤقتة تحظى بتأييد ودعم عربي – دولي.

اخترنا لك