لبنان بين ضغوط الخارج ومأزق الداخل الطائفي

بقلم زكي طه

يمر لبنان اليوم في واحدة من أعقد لحظاته السياسية واشدها حساسية وخطورة منذ سنوات، وسط زحمة موفدي الخارج الاقليمي والدولي، الذين ينفذون سياسات بلدانهم ويخدمون مصالحها، والتي تترجم طلبات وأوراق وشروطً للدعم. فيما البلد يختنق جراء مفاعيل الانهيار الاقتصادي والمالي، ونتائج الحرب الاسرائيلية علية، في ظل انقسام سياسي خطير يهدد إمكانية صياغة موقف موحد بشأن معالجة أزماته، بدءاً من معضلة سلاح حزب الله ومواجهة شروط اسرائيل لوقف الاعتداءات والانسحاب وإنهاء الاحتلال. الامر الذي يهدد مسيرة الانقاذ ومشروع إعادة بناء الدولة.

خطورة اللحظة هي نتاج مسار طويل من الأزمات، وتكثيف للموروث من الخلافات والتناقضات والمضاعفات التي راكمتها سياسات وممارسات القوى الممسكة بمقاليد السلطة في إطار المحاصصة الطائفية والسياسية، بالاستناد إلى رهاناتها على الجهات الإقليمية والدولية التي جعلت من لبنان ساحة مفتوحة لصراعاتها ولتصفية الحسابات فيما بينها.

يؤكد ذلك تزاحم الضغوط الخارجية في صيغة إملاءات يرددها الموفد الاميركي عطفاً على ورقته التي تتضمن رؤية وطلبات إدارة بلاده لوقف اعتداءات اسرائيل المستمرة على لبنان ولتهديداتها باستئناف الحرب، وضمان أمنها ومصالحها في آن وصولاً إلى السلام معها.

وبالتوازي معها تتكثف مواقف وتصريحات المسؤولين الايرانيين الذين يطالبون الحكومة اللبنانية بالعودة عن قرار حصر السلاح بيد مؤسسات الدولة، ويحذرون من الرضوخ للضغوط الاميركية. والهدف الابقاء على سلاح حزب الله ورقة تستخدمها ايران في مفاوضاتها مع الادارة الاميركية، ولذلك كانت زيارة رئيس مجلس الامن القومي علي لاريجاني للضغط على الحكومة ودعم حزب الله في نزاعه معها.

مسؤولية الدولة وورقة برّاك

والدولة ممثلة بالعهد والحكومة لم تبادر إلى تقديم مقاربة وطنية شاملة تستند إلى خطاب القسم والبيان الوزاري كرؤية وطنية جامعة لمعالجة قضايا البلد بما فيها معضلة سلاح الحزب، وتركت الساحة مرتعاً للحسابات الطائفية وللمزايدات الفئوية الضيقة والضغوط والإملاءات الخارجية.

صحيح أن الحكومة استجابت للضغوط الاميركية وقررت حصر السلاح بمؤسسات الدولة، وهي تنتظر تقرير الجيش، وهو المؤسسة الجامعة التي يدعي الجميع أنها ما زالت تحظى بقدر من الثقة الوطنية. والرهان قائم الآن على حكمة قيادته في أن يكون تقريرها حاسماً في مراعاة مصلحة البلد وأن يكون بمثابة خارطة طريق لمعالجة حالة التأزم القائمة على الصعيدين السياسي والميداني في آن.

لم تربط الحكومة تنفيذ ورقة الموفد الاميركي بموافقة كل من سوريا وإسرائيل على مضمونها. ولم تأخذ بنظر الاعتبار بأن الورقة تحمل وعوداً ولا تتضمن التزامات، وأنها تفتقد للضمانات التي تلزم اسرائيل بالانسحاب وبوقف العدوان. والأكثر أهمية كان الاستهانة بما انطوت عليه من أفخاخ وغموض، يجعلها إطاراً فضفاضاً يُشرع الباب امام مماطلة اسرائيل واستمرار عدوانها تحت مسميات أو ذرائع جديدة. وهنا تكمن مسؤولية الدولة وقدرتها على تنفيذ قرارها وفق معادلة الحفاظ على المصلحة الوطنية وضمان الاستقرار، وتفادي خسارة الدعم الدولي، وتجدد الضغوط السياسية والاقتصادية، وعدم انسحاب اسرائيل.

حزب الله بين العجز والمواجهة

في المقابل يدرك حزب الله أن سياساته وقراراته عرّضت البلد لحرب اسرائيلية مدمرة برعاية اميركية صريحة. وكلاهما الآن يعاني كماً هائلاً من الضغوط الدولية والاقليمية. لكن الحزب يواجه عزلة سياسية غير مسبوقة، ويقف امام واقع اقليمي ودولي لا يخدم مصالحه. وهو الآن في حالة اشتباك داخلي مع شركائه من قوى السلطة من مواقعهم الطائفية، وفي وضعية نزاع مع الحكومة حول القرار المتعلق بسلاحه.

من الواضح أن الحزب ليس بوارد الموافقة على قرار ينهي شرعية سلاحه. لكنه يدرك أن القرار غير قابل للتعديل. وهو يدرك أيضاً أنه عاجز عن مواجهة الاحتلال، وأن صيغة المقاومة التي كانت قائمة لتبرير الاحتفاظ بالسلاح لم تعد ممكنة راهناً. ولذلك هو يطالب الدولة أن تتحمل مسؤوليتها ويشكك بقدرتها في آن. علماً أن تاريخ ممارساته على صعيد تعطيل دور الدولة ومصادرة قرارها والتحكم بسياستها الخارجية والتسبب بعزلة لبنان عربياً ودولياً لا يشكل شهادة له يمكنه الاعتداد بها.

وحقيقة الامر أن مأزق الحزب الآن يكمن في البحث عن ضمانات لموقعه ومكاسبه في السلطة، وعن الحصانات التي تحول دون تعريضه للمحاسبة عن ممارساته السابقة. لأن خسارة السلاح تعني فقدانه عناصر قوته. ما يجعله محاصراً في الداخل والخارج. ولذلك هو يرى في القرار تهديداً لموقعه ودوره، وقد دفعه ذلك إلى إعلاء راية تقديس السلاح، لتبرير الاحتفاظ به وتصعيد مواقف رفض تسليمه على نحو قاطع، بذريعة مواجهة المؤامرة الأميركية ـ الإسرائيلية والتنظيمات الارهابية، وكلاهما وفق تعبيره يهدد وجود الطائفة الشيعية التي يدعي النطق باسمها. وصولًا إلى التلويح باستخدام العنف في مواجهة الدولة، وسط تجاهل تام لتبدل المعطيات وتوزانات القوى، الأمر الذي يضع رفض تنفيذ قرار الحكومة في خانة التمرد على القانون والخروج على منطق الدولة.

المفارقة أن الحزب، الذي يتهم الحكومة بالخضوع للضغوط الأميركية والشروط الاسرائيلية. وهو أمر صحيح. لكنه يتناسى أنه شريك فيها، وأنه فاوض بشكل غير مباشر على اتفاق وقف النار مع إسرائيل، ووافق على شروطها برعاية أميركية. وسبق ذلك أن قيادته اعتبرت ضمانة الادارة الاميركية لاتفاق ترسيم الحدود البحرية مع العدو الاسرائيلي انتصاراً للبنان. في المقابل يعتد الحزب بعلاقته مع ايران، ويرفض الاقرار بخطورة استقوائه بها، وبمخاطر ارتباط سياساته باستراتيجيتها القائمة على التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية عبر تزخيم انقساماتها الاهلية على اسس طائفية ومذهبية، وأن لبنان كان ولا يزال نموذجا صارخا لهذا التدخل خلافاً لمصلحة الوطنية.

وللتغطية على مأزقه، يلجأ الحزب إلى التحريض والتجييش الطائفي، بكل الوسائل. لكنه هذه المرة لا يذهب إلى حد الانسحاب من الحكومة، والتفريط بشراكته في السلطة وغايته خوض الصراع من هذا الموقع معها، في ظل الرهان على متغيرات اقليمية قد تعيد خلط الاوراق وتمكنه من الحصول على ضمانات للمستقبل.

في المقابل، تسلك حركة أمل مساراً أكثر حذراً، متمسكة بحماية موقعها ومكتسباتها. فهي تحفظت على توقيت القرار الحكومي، لكنها لم ترفضه. ولم تشارك في الاحتجاجات، واضعة خطاً أحمر أمام العودة إلى الحرب. من الواضح أن قيادة الحركة تدرك صعوبة وأكلاف مجاراة الحزب في مسار التصعيد ضد الدولة، لكنها لا تستسهل فك الشراكة معه او الاصطدام به لما للامر من انعكاسات سلبية عليها، وهي تعلم جيداً استحالة الاستمرار بتهديد الدولة وتخوينها.

الدولة ورهان المستقبل

حاولت الحكومة تجنب الصدام المباشر مع الحزب، ولم ترفع شعار نزع السلاح. لكن قرارها سحب الغطاء السياسي عنه، في خطوة لم تكتمل. غير انها تعكس بداية تحوّل في مقاربة السلاح، وهي خطوة كانت منتظرة داخلياً وخارجياً. وهي تمثل اليوم بالنسبة لأكثرية اللبنانيين رهان الحاضر والمستقبل، لأن استمرار الوضع على ما هو الآن يعني بقاء لبنان رهينة ميزان القوى الذي تتحكم به إسرائيل، واسير الضغوط الخارجية، وخطر عدم التجديد لقوات الطوارىء الدولية، ما يؤدي إلى تعطيل مسيرة بناء الدولة وشل قدرتها على استعادة سيادتها.

ورغم التضحيات الجسام، فإن السلاح لم يحمِ الحزب في مواجهة اسرائيل، ولم يمنع الحرب على لبنان ولم يوقف الاعتداءات عليه. وقد تحول الآن ذريعة يستخدمها العدو لتغطية ممارساته العدوانية ولرفض الانسحاب وعدم الالتزام بموجبات الاتفاق الذي وافق عليه حزب الله. واصبح أيضاً سبباً لحرمان لبنان من المساعدات الدولية والعربية لإعادة الاعمار أو للتعافي الاقتصادي. وبات في نظر خصوم الحزب في الداخل عبئًا عليه وعلى البلد في آن. صحيح أن الحزب يرى في سلاحه ضمانة وجودية، لكن المجتمع الدولي يتعامل معه كمصدر لعدم الاستقرار. وإمكانية بقائه رهن معادلات إقليمية معقدة، من بينها الدور الإيراني في الملف اللبناني.

في الواقع أن الحزب أمام خيار تاريخي: إما أن يواصل الانسياق وراء الإرادة الإيرانية، وإما أن يقرأ التحولات الإقليمية والدولية بواقعية، ويسعى إلى تسوية تحفظ مكانته السياسية من دون أن تدمر ما تبقى من الدولة. واللحظة الراهنة ليست قدراً حتمياً للانتحار السياسي ونحر البلد، لكنها قد تصبح كذلك إذا أصر على الإنكار والمكابرة.

صحيح أن الولايات المتحدة تمارس ابتزازاً على لبنان لمصلحتها ولمصلحة إسرائيل في آن. لكن قرار الحكومة بشأن السلاح معطوفاً على ما سبقه منذ الاتفاق على وقف اطلاق النار على صعيد الاستحقاقات الدستورية، ورغم كل التحديات والصعوبات، يفتح أفقاً ـ ولو محدودًا ـ لإنهاء الاحتلال، وفرصة للانقاذ على طريق التعافي الاقتصادي، والحد من وطأة الضغوط الخارجية ومواجهة العدو الاسرائيلي.

لبنان اليوم أمام مفترق طرق: إما دولة موحدة، أو ساحة مستباحة تتحكم بها قوى الطوائف والخارج. يعني ذلك أن الدولة الآن هي أمام اختبار القدرة على فرض هيبتها وحماية سيادتها، مع الحفاظ على السلم الأهلي وتجنب الانزلاق إلى مواجهة داخلية لن ينتصر فيها أحد. هذه ليست لحظة للمزايدات أو تصفية الحسابات، بل لحظة لتحديد ما إذا كان لبنان سيبقى وسيكون له دولة قابلة للتطور، أم يستمر ساحة مفتوحة للعبة الأمم.

 

اخترنا لك