لتعود الدولة دولة : حجّة قانونية وسياسية وأمنية لنزع سلاح «حزب الله» وإنهاء دولة السلاح الموازي
بحث قانوني
إعداد د. عبد العزيز طارقجي
ليس نزاعًا أيديولوجيًا ولا تصفية حسابات سياسية؛ إنّه سؤال الدولة نفسها: من يحتكر القوّة الشرعية في لبنان؟ وأي قانونٍ يَسمح ببقاء سلاحٍ حزبيٍّ عابر للحدود يجرّ البلاد إلى الحروب، ويُقوّض استقلال القضاء، ويقايض الاقتصاد الوطني بشبكات تمويل غير مشروع؟ الجواب، قانونًا ووقائعَ ومصلحةً وطنية، يقود إلى نتيجة واحدة: نزع سلاح حزب الله وإعادة احتكار العنف المشروع لمؤسّسات الدولة وحدها.
أولًا: الإطار القانوني الذي يحسم الجدل
1- وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف، 1989)
تنصّ بوضوح على حلّ جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها. الاستثناء الذي جرى تسويغه تاريخيًا تحت عنوان «المقاومة» انتفى بانتهاء ظروفه وتحوّله إلى سلاحٍ يُستخدم داخل لبنان وضد جيرانه ويخالف روح الطائف ونصّه.
2- قرارات مجلس الأمن الملزِمة
القرار 1559 (2004) يدعو صراحة إلى تفكيك جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها.
القرار 1701 (2006) يؤكّد عدم جواز وجود أي سلاح أو سلطة في لبنان غير سلطة الدولة، ويُلزم بمنع تهريب السلاح وبسط الجيش لسلطته في الجنوب.
3- القانون اللبناني الداخلي
قانون الأسلحة والذخائر (المرسوم-الاشتراعي رقم 137/1959) يجرّم حيازة ونقل واستيراد الأسلحة والمواد المتفجّرة خارج الأطر المرخّصة، وهو ما يتنافى مع بنية ترسانةٍ حزبية ثقيلة ومخازنها.
قانون الدفاع الوطني (المرسوم رقم 102/1983) يُسند مهام الدفاع والأمن القومي للقوات المسلّحة اللبنانية تحت سلطة المؤسّسات الدستورية، بما يقطع مع أي قوى مسلّحة موازية.
4- التزامات لبنان الحقوقية
لبنان طرفٌ في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يحمي الحق في الحياة، ويُلزم الدولة بمنع العنف خارج إطار القانون، وحماية حرية الرأي والانتقاد من قمع الأجهزة أو الميليشيات. استمرار سلاحٍ حزبي يُنتج قتلاً وقمعًا وترهيبًا يقوّض هذه الالتزامات.
ثانيًا: سجلّ الانتهاكات والجرائم الموثّقة
1- الاغتيالات السياسيّة
أدانت المحكمة الخاصة بلبنان في 18 آب/أغسطس 2020 العضو في حزب الله سليم عيّاش بضلوعه في اغتيال الرئيس رفيق الحريري وآخرين، في حكمٍ قضائي مفصّل يرسّخ مسار الاغتيال السياسي كأداةٍ للعنف الميليشياوي.
2- التورّط في الحرب السورية وإذكاء الفتنة الطائفية
اعترف الحزب علنًا بتدخّله العسكري في سوريا (معركة القصير والغوطة الشرقية و حلب مثالًا)، وهو تدخلٌ وثّقته منظمات حقوقية كجزءٍ من دينامياتٍ طائفية مسلّحة عابرة للحدود، زادت من احتمالات انفجارٍ أهلي في لبنان وسوريا على السواء.
3- شبكات المخدّرات وتبييض الأموال عابرة القارات
كشفت إدارة مكافحة المخدرات الأمريكية (DEA) عام 2016 شبكة «عملية السّ Cedar» لذراعٍ مالي في حزب الله يبيّض عائدات الكوكايين عبر أوروبا وأمريكا اللاتينية ضمن «سوق البيزو السوداء».
سبق ذلك تصنيف المصرف اللبناني الكندي «مؤسسةً ذات أهمية رئيسية لغسل الأموال» لدوره في منظومةٍ مرتبطة بالحزب، وما تلاها من إجراءاتٍ قضائية ومالية.
وفرضت وزارة الخزانة الأمريكية (OFAC) عقوباتٍ على «وحدة الشؤون التجارية» في حزب الله لتورّطها في الاتجار بالمخدرات وغسل العائدات.
4- تسييل العنف خارج الحدود وتصنيفٌ إرهابي متّسع
الاتحاد الأوروبي صنّف الجناح العسكري للحزب كيانًا إرهابيًا (2013)، على خلفية هجماتٍ وعملياتٍ خطيرة على الأراضي الأوروبية.
ألمانيا حظرت أنشطة الحزب بجميع تشكيلاته على أراضيها (2020).
وامتدّت التصنيفات إلى أميركا اللاتينية: الأرجنتين ضمّته إلى سجلّ الإرهاب (RePET) عام 2019، وكذلك باراغواي (2019) وكولومبيا (2020) وهندوراس/غواتيمالا (2020)، ما يعكس طابعًا إرهابيًا عالميًا يتجاوز الساحة اللبنانية.
5- انفجار مرفأ بيروت: عرقلة العدالة كمنهجيّة
على الرغم من عدم صدور حكمٍ قضائي يُسند مسؤولية جنائية نهائية لطرفٍ محدّد، وثّقت منظمات حقوقية عرقلةً سياسيةً وقضائيةً ممنهجة للتحقيق، وضغوطًا لتعطيله، في مناخٍ تُتَّهم فيه قوى نافذة – ومنها الحزب وحلفاؤه – بإجهاض المساءلة. المطالبة هنا بنزع السلاح ليست لتفسير الانفجار، بل لرفع قبضة القوة الموازية عن القضاء.
6- تسخير الأجهزة والقوانين لتكميم المعارضين
سجّلت “هيومن رايتس ووتش” والعفو الدولية تصاعدًا في استدعاءات وقضايا القدح والذم ضد صحافيين وناشطين، وتوسّع دور «مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية» في ترهيب النقد العام—جزءٌ من بيئةٍ تحميها قوة السلاح وتوازناتها.
ثالثًا: كلفة «دولة السلاح» على الدولة والاقتصاد والمجتمع
1- اقتصاد رهينة العنف والتهرّب
يصف البنك الدولي أزمة لبنان بأنها «اكتئاب متعمّد» فاقمته بنية الالتقاط النخبوي وانعدام سيادة القانون؛ إذ تتغذّى شبكات الاقتصاد الموازي من التهريب والسلاح، وتشلّ الإصلاح وتطيح الثقة والاستثمار.
2- الفقر والهشاشة
تضاعفت معدّلات الفقر لتبلغ 44% (2024)، في بلدٍ تُدار فيه السياسات العامة تحت وطأة توازنات الميليشيات وحمايتها للاقتصاد غير المشروع.
3- تهديدٌ دائمٌ للسلم الأهلي والسيادة
غياب احتكار الدولة للسلاح يبقي البلاد على حافة الانجرار إلى صراعاتٍ خارجية وعلى خطوط اشتباكٍ متحرّكة، ما ينسف أي تعافٍ اقتصادي أو استقرار مؤسّسي. (انظر تنبيهات البنك الدولي والوكالات الدولية حيال أثر الاشتباكات الحدودية على الانكماش).
رابعًا: لماذا نزع السلاح ضرورة قانونية – لا سياسية فحسب
التزامٌ بقرارات دولية ملزمة (1559 و1701).
تنفيذٌ مباشر للطائف وعودة الدولة كمرجعٍ وحيد للقوة.
حماية الحقوق الأساسية وفق العهد الدولي.
تجفيفٌ لمنابع الجريمة المنظمة العابرة للحدود التي وثّقتها تحقيقاتٌ قضائية ومالية دولية.
استعادة ثقة الداخل والخارج تمهيدًا لأي إنقاذٍ اقتصادي ومالي.
خامسًا: خارطة طريق عملية لنزع السلاح وإعادة بناء السيادة
أ- مسار دستوري – أمني داخلي
استراتيجية دفاع وطني مُلزمة زمنيًا تُقرّها السلطات الدستورية، تُعرّف التهديد وتُسند الردع للجيش حصراً.
تجريم محدث ومشدّد لحيازة وتخزين الأسلحة الثقيلة خارج المؤسّسات “تطبيق صارم لقانون 137/1959 مع تعديلاتٍ تُغلّظ العقوبات”.
دمجٌ فردي مشروط لعناصرٍ غير متورّطة بجرائم جسيمة ضمن المؤسّسات الأمنية، مع عدالة انتقالية لمن يُسلّم السلاح ويقرّ بالانتهاكات.
تفكيك اقتصادي لشبكات التمويل غير المشروع: إقفال المصارف وشركات الصيرفة الواجهة، وملاحقة «التجارة الموازية» والتبييض بالتعاون مع وحدات الاستخبارات المالية العربية والدولية، استنادًا إلى القضايا السابقة “LCB، عملية Cedar، إلخ”.
ب- مسار قضائي – حقوقي
تحرير القضاء: تحصين استقلال المحققين والقضاة ومنع كفّ اليد التعسّفي، وتمكين التحقيق في ملفات الاغتيالات والانفجار بلا خطوطٍ حمراء.
حماية حرية الصحافة عبر إلغاء تجريم القدح والذم واستبداله بالتعويض المدني، لرفع كلفة الترهيب القانوني.
ج- مسار حدودي – دولي
تمكين الجيش اللبناني والأمن العام على الحدود والمعابر بنظام تفتيشٍ إلكتروني متكامل وتمويلٍ تقني تحت إشرافٍ أممي لتنفيذ 1701 ومنع تهريب السلاح.
شراكات إنفاذ القانون مع أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا لملاحقة شبكات التهريب والتبييض المرتبطة بالحزب “استثمار سوابق DEA وOFAC وتبادل الأدلة المالية”.
د- ضمانات سياسية – مجتمعية
ميثاقٌ وطني محدّث يُثبت حصرية السلاح بالدولة ويرسّخ حياد المؤسسات، ويعالج قلق البيئات الحاضنة عبر برامج تنميةٍ وخدماتٍ بديلة تُسحب من يد «اقتصاد الميليشيا».
تعويضات ومصالحة للضحايا وأهاليهم في ملفات الاغتيالات والانفجار والانتهاكات، ضمن مسار عدالةٍ شفّاف.
سادسًا: خطابٌ وطني جامع لا يبرّر، بل يُحرّر
هذا البحث لا يدافع عن أي خصومةٍ خارجية ولا يستدعي سجالًا تبادليًا. إنّه بيان سيادة: لا تُبنى دولةٌ بسلاحين، ولا اقتصاد مع «خزنةٍ مظلمة» خارج القانون، ولا ديمقراطية في ظلّ ترهيب الصحافيين والناشطين والمحامين.
نزع سلاح حزب الله ليس رهانًا على الخارج، بل استعادةٌ لعقدٍ اجتماعي داخلي، يردّ القرار الوطني إلى مؤسّساته، ويضع لبنان على سكة دولةٍ طبيعية: سيادة واحدة، سلاح واحد، قضاء واحد.
ختامًا،لا دولة بلا حصرية السلاح ولا عدالة بلا قضاءٍ حر. حين يُستعاد السلاح إلى مؤسّسات الجمهورية، تُستعاد معها السياسة والاقتصاد والقانون والكرامة العامة. إنّ نزع سلاح حزب الله ليس «خيارًا» بين خيارات؛ إنّه شرطٌ تأسيسي لإعادة لبنان دولةً مستقلةً ذات سيادة، قابلة للحياة، تحكمها القوانين لا الميليشيات.
لقد تجاوز خطر حزب الله حدود الداخل اللبناني ليصبح أداةً للتدخل في شؤون الدول العربية والدولية، وتخريب علاقات لبنان مع محيطه والعالم، وتعريض حياة وأرزاق اللبنانيين في الخارج للخطر عبر سياساته وممارساته، واستغلاله المرافق والمراكز الرسمية والأمنية للدولة اللبنانية للإضرار بدول أخرى، وإقحام لبنان في صراعات إقليمية لا مصلحة له فيها، ووضعه بالكامل في قبضة إيران، الدولة الراعية للإرهاب الدولي والمارقة على القانون الدولي.
إن نزع سلاح حزب الله ليس مجرد مطلب سياسي أو قانوني، بل هو معركة وجودية لتحرير لبنان من الارتهان، وإعادته إلى الخريطة كدولة ذات سيادة، تعيش بسلام مع جيرانها، وتحترم التزاماتها الدولية، وتحمي مواطنيها أينما كانوا.
* باحث في الانتهاكات الدولية لحقوق الإنسان
المصادر
- اتفاق الطائف “حلّ الميليشيات وبسط سلطة الدولة”.
- قرارا مجلس الأمن 1559 و1701 “تفكيك الميليشيات وحصرية السلاح بالدولة”.
- قانون الأسلحة 137/1959 وقانون الدفاع 102/1983.
- العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
- إدانة سليم عيّاش أمام المحكمة الخاصة بلبنان.
- شبكات تمويل المخدرات والتبييض “DEA/OFAC/LCB”.
- تصنيفات إرهابية دولية “الاتحاد الأوروبي، ألمانيا، ودول بأمريكا اللاتينية”.
- تقارير عرقلة تحقيق انفجار المرفأ.
- تقارير قمع حرية التعبير واستدعاء الصحافيين والناشطين “هيومن رايتس ووتش و منظمة العفو الدولية”.