جليد ألاسكا… قمة ملتهبة بلا قفّازات

بقلم غادة المرّ

ألاسكا… هناك صمت الجليد أخفى سخونة الخلافات وضراوة جبهات الحروب على امتداد العالم.

في أقصى الشّمال، حيث يمتدّ الجليد بلا نهاية. قمة ألاسكا لم تكن مجرَد اجتماع ديبلوماسي فحسب، بل لحظة انكشاف، وهمس الصّقيع أسرار السياسة وانطلقت المصافحة بين دفء الطموح وبرودة المصالح، وكتبت هناك فصول صراع العالم بغلاف الحذر الهادئ وحرارة المواجهة. وعكس بياض الثلّج ما اختبأ خلف المرايا البيضاء.

هناك كلّ حركة او ترتيب كانا رسالة مخفيّة، ولم يلبثا أن تكشفا عن سيناريوهات، واتفاقات، ونهايات لقصص وأحداث تلهب العالم وتحتَل نشرات الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي، تحت سماء زرقاء تجمع البشر جميعهاً.

هناك، راقب العالم لقاء القطبين وكلَه يقين أنّ هناك لعبة لا تُرى، تبدأ بمجرّد مصافحة تحصل، يتبعها وداع حتميّ، أُسدلت بعده الستارة وعاد الصّمت سيّد المكان.

المكان والزمان …

عقدت القمة بتاريخ 15 آب في قاعدة (Base Elemendorf-Richardson joint) العسكرية في الاسكا، لماذا الاسكا؟ لأنها تحمل دلالات تاريخيّة، وهي كانت جزءاً من روسيا سابقاً قبل أن تشتريها منها الولايات المتّحدة الأميركية عام 1867. وكونها تبعد عن واشنطن وموسكو مسافة متقاربة، وتوفّر بذلك موقعاً محايداً نسبيّاً. كما إنّ الموقع آمن للغاية عسكريّاً، ويبعث إشارة رمزيّة عن التقارب بعد سنوات من التوتر والبرودة.

ترامب وبوتين

حضر ترامب مع عدد من مساعديه الكبار، بينما حضر بوتين والى جانبه لافروف وآخرون. بدأت المحادثات حوالى 11.32 قبل الظهر وانتهت حوالى 2.18 بعد الظهر بالتوقيت المحلّي تلاها مؤتمر صحافيّ.

كواليس القمّة والوثائق المسرّبة

* ظهرت تقارير عن وثائق كاملة خاصة بتنظيم القمة، تشمل جدول الأعمال، تفاصيل الاجتماعات، مقاعد الجلوس، قائمة الضَيوف.
* تضمنت الوثائق خطّة غداء على شرف الرئيس فلاديمير بوتن، هدايا رمزية تبادلها الطرفان.
* هذا الحدث أثار انتقادات لفشل الإجراءات الأمنيَة، وشبّه بفضيحة “Signalgate” السابقة.

النتائج وماذا تحققّ؟

١- إنجازات بوتين:
* نجح بوتن في استقطاب تغطية إعلاميّة واسعة، ما منح القمّة طابعاً رمزيّاً، جعله يظهر كزعيم دوليّ، ولاعب ومقاتل شرس عاد الى السّاحة بقوة.
* استطاع بوتين أن يغيّر المعادلة السياسيّة حول حرب أوكرانيا، من التركيز على “وقف النار”، الى “إتّفاق سلام” شامل، وهو ما يتماشى مع وجهة نظر روسيا.

ما الّذي لم يتحقّق؟

* لم يتمّ التوصل الى وضع تاريخ محدّد لاتفاق رسميّ أو وقف للنار.
* لم يُعلن عن تقديم مساعدات اقتصاديّة أو تخفيف للعقوبات.
* طلب بوتين ألّا تضع أوكرانيا شروطاً مسبقة، مثل وقف النار قبل التفاوض، وهو ما تبناه تبنيه ترامب فعلاً.
* مطالبة بوتين بعدم انضمام كييف الى الناتو، وعدم نشر صواريخ بعيدة المدى في اوكرانيا، والاحتفاظ بالأراضي التي دخلتها روسيا، في مقابل تنازلات قدّمتها موسكو باطلاق يد واشنطن وتل ابيب في الشرق الأوسط. فالحديث أنّ روسيا تخلّت عن حليفتها طهران في مقابل هذه الضمانات، قيد التأكّد، ولعلّ الأسابيع المقبلة تعطينا الجواب اليقين.
* ولا شك في أن روسيا حريصة على الحفاظ على نفوذها في الشرق الأوسط، وخصوصاً في سوريا، وهو جزء من قوتها الاستراتجيّة.

إنجازات ترامب وأوروبا

1- تثبيت النفوذ في أوروبا الشرقيّة:
* كانت الأولوية، فرض ضوابط على أوكرانيا ووقف توسّع النفوذ الروسيّ.
* تريد واشنطن عدم نشر صواريخ بعيدة المدى في كييف، لأن هذا الأمر من شأنه أن يحدّ من قدرة روسيا على الرّد ويبقي النّفوذ الغربيّ مستقراً. وتكون قد سحبت من موسكو ورقة مهمة وهي شرط رئيسيّ لوقف القتال بين البلدين.

2- الضغط على روسيا لتحقيق تنازلات اقتصاديّة وسياسيّة:
* تسعى واشنطن من خلال هذه القمة الى أختبار ردود موسكو على العقوبات ومعرفة مدى استعدادها للتعاون والمرونة في بعض الملفّات الدوليّة.

3- رسائل للدّاخل الأميركيّ وحلفاء الناتو:
* إجتماع ترامب مع بوتين، يعكس صورة قوة ديبلوماسيَة، ويظهر للداخل الأميركيّ أنّ واشنطن تسعى لتأمين الأمن القوميّ والحفاظ على النّفوذ العالميَ.
* تظهر القمة لحلفاء الناتو التزام واشنطن متابعة التوازنات الدّوليّة بشكل مباشر.

الملفات الإقليميّة الضمنيّة:

رغم أنّ الشرق الأوسط لم يكن محوريّاً، لكنّ واشنطن تحقق مصلحة ضمنيّة بمراقبة النّفوذ الروسيّ في سوريا ولبنان وتقليص أيّ تحرّكات قد تهدّد مصالحها في المنطقة.

لم تعلن القمة عن مناقشات مباشرة عن لبنان وسوريا وإيران وإسرائيل، لقد كانت الإشارات عامّة ومرتبطة بالأمن الإقليميّ وسياسات واشنطن في الشرق الأوسط، ومن الطبيعيّ أن تستحوذ طهران على حيَز من الحوار بين الطرفين، خصوصاً منَ زاوية النفوذ الإقليميَ، الإتّفاق النّوويّ والوجود العسكري في لبنان وسوريا، ولن يطول انتظارنا طويلاً حتّى تبدأ بنود هذه القمة السَريّة بالتكشف.

التقييم العام

يبدو أن القمة ركّزت على أوكرانيا والأمن الأوروبيّ وعلى إنهاء الحرب هناك.

١- إعتبر بعض السياسيّن الغربيين أن القمة هزيمة ديبلوماسيّة لواشنطن، إذ منحت شرعيّة رمزيّة لبوتين من دون تحقيق أهداف حقيقيّة.
٢- كانت أداة استراتجيَة لواشنطن لتثبيت نفوذها في أوروبا.
٣-مراقبة تمدّد النّفوذ الرّوسيّ، وإرسال رسائل داخليّة وخارجيَة، حتّى لو لم تُعلن الملفّات الإقليميّة بشكل مباشر .

في هذا الصّمت الأبيض، تُقاس القوة بالبنود و تبادل المصالح تحت الطاولة، وبعيداً من عدسات الكاميرات وآذان الإعلام وضجيجه، تمّت الصفقات واقتسمت المغانم والثروات والنّفوذ لعقدٍ من الزمن.

والقصة الحقيقيَة، كما في كلّ صراع بين العمالقة أقطاب العالم، ليست في ما نراه ونسمعه، بل في ما يختبيء بين خطوط الجليد، وسطور أوراق القمّة السَريّة .

اخترنا لك