قراءة في لقاء القمّة بين الرّئيسين ترامب وبوتين

بقلم السّفير د. هشام حمدان

تابعت كغيري من المهتمّين ببناء السّلام في العالم، لقاء القمّة الذي جمع الرّئيسين الأميركي، دونالد ترامب، والرّوسي، فلاديمير بوتين. لاحظت بداية المظاهر التّرحيبيّة التي أقامها الرّئيس ترامب لضيفه. وقد رأيت وجه بوتين المنتشي فرحا، والذي سار إلى جانب الرّئيس ترامب مزهوّا تملأه الثّقة.

كثيرون انتقدوا هذه المظاهر وخاصّة ركوع جنود أميركيّين لفرش السّجّادة الحمراء حتّى درج طائرة الرّئيس الضّيف.

لكنّ المتابعين بإعجاب لمواقف الرّئيس ترامب الدّوليّة، وأنا واحد منهم، وجدوا في هذه المظاهر، سياسة حكيمة تخفي خلفها عدّة أهداف متداخلة، أبرزها: تظهير معطيات السّياسة المستقبليّة للولايات المتّحدة إزاء الإتّحاد الرّوسي. العلاقة مع روسيّا، لها أبعاد عديدة لا تقتصر على أوكرانيا فحسب، بلّ على كلّ ما يتعلّق بواقع النّظام الدّولي. روسيّا، تمسك أوراقا دوليّة يحتاجها الرّئيس ترامب لإدارة ملفّات أخرى منها: ملف فينزويلا، إيران وسوريّة إضافة إلى ملفّ الصّين وملفّ النّظام الاقتصادي والمالي الدّوليّين. روسيّا قوّة عظمى وعضو دائم في مجلس الأمن، لا يراها الرّئيس ترامب منافسا اقتصاديا جدّيّا لبلاده كما الصّين، وإنّما هي فاعل سياسي يؤثّر على نجاح الخطط السّياسيّة لإدارته في العالم.

لم يرشح حتّى الآن أيّ موقف من الإدارة الأميركيّة بعد هذه القمّة، يعكس توجّها معيّنا يوشي بحقيقة ما جرى خلف الأبواب المغلقة. لكن من الواضح، أنّ السّلام في أوكرانيا، لن يكون قريب المنال. وباعتقادي أنّ الرّئيس ترامب، استمع إلى وجهة نظر بوتين عن كثب. في مثل هذا اللّقاء لا تتكلّم السّياسة، بلّ الثّوابت في المواقف الاستراتيجيّة.

أوكرانيا، لها تأثير استراتيجي على روسيّا، والتّعاطي مع قضيّتها يختلف عن التّعاطي مع أيّة قضيّة أخرى. فهل من مصلحة استراتيجيّة مقابلة للولايات المتّحدة في أوكرانيا، يمكن أن تفرض على الرّئيس ترامب مواجهة روسيّا وتحويلها إلى خصم لدود، من أجلها؟

قد لا تكون للولايات المتّحدة مصلحة مباشرة، لكن لديها ولا شكّ، مصلحة حيويّة متعلّقة بثبات النّظام الدّولي بما في ذلك في أوروبّا (ألغربيّة والشّرقيّة)، وفي أوراسيا، كما أرسته تحوّلات ما بعد تفكّك الإتّحاد السّوفياتي. هذا إضافة إلى الالتزام الأميركي المشترك مع روسيّا، في حفظ أمن أوكرانيا، عندما تمّ الاتفاق مع كييف، على نزع سلاحها النّووي. ألمشكلة التي تعيق جهود واشنطن السّلميّة، تجد جذورها في موقف موسكو بالعودة إلى الحديث عن أوكرانيا كجزء من روسيّا التّاريخيّة ( ولو تكتيكيّا)، وطموحات بوتين لوضع اليدّ على شبه جزيرة القرم. هذا توجّه استعماري يهدّد الاستقرار والأمن في أوروبّا وفي العالم.

لا شكّ أنّ الرّئيس ترامب، يسعى بإخلاص للتّوصّل إلى سلام في تلك المنطقة. ولا شكّ أنّه يدرك المسبّب الأساسي في كلّ ما حصل هناك. لم يكن الرّئيس بوتين، هو الذي بادر إلى تفجير الأوضاع بين بلاده وأوكرانيا، بل الإدارة الدّيمقراطيّة التي كانت تحكم أميركا عام 2014، حين أشرف نائب الرّئيس الأميركي آنذاك جو بايدن، على تحرّكات في أوكرانيا ضدّ الرّئيس فيكتور يانكوفيتش، ألقريب من موسكو، بعد رفضه توقيع إتّفاق تعاون تجاري مع الإتّحاد الأوروبّي، كان سيؤثّر سلبا على المصالح الاقتصادية الرّوسيّة فيها. حصلت على الأثر تطوّرات أدّت إلى انقسام عامودي بين السّكّان الرّوس في شرق البلاد، والآخرين، ما مهّد لتدخّل عسكريّ روسيّ، سيطرت من خلاله، على شبه جزيرة القرم.

جاء ردّ الفعل الأوروبّي وانتخاب زيلنسكي الموصوف في روسيّا بالنّازي، ليزيد من لهيب المشكلة. طلبت أوكرانيا الانضمام إلى النّاتو. هذا يعني أنّها لا تصرّ على الاتفاق الاقتصادي مع أوروبّا فحسب، بلّ تريد أن تكون جزءا من منظومة الأمن والدّفاع الأوروبّيّ ضدّ روسيّا. فردّ بوتين عام 2022، بإعلان الحرب على أوكرانيا، وذهب للقول أنّ أوكرانيا، هي جزء من روسيّا، ونالت استقلالها بقرار سوفياتي.

كيف يٌتوقّع أن يتعامل الرّئيس ترامب مع هذا الواقع؟

لا يفيد التّذكير بأنّ الحرب الرّوسيّة ضدّ أوكرانيا، بدأت عام 2022. فالنّزاع الرّوسي- الأوكراني، بدأ ساخنا كما أشرنا، منذ عام 2014. ومنذ ذلك التّاريخ، ما زال الرّئيس بوتين رئيسا لروسيّا، ولا نتوقّع أيّ تغيير فيها قريبا، فيما أنّ الرّئيس ترامب، يعود للرّئاسة بعد ولاية كاملة وولاية مماثلة لخلفه الرّئيس بايدن، ونعلم منذ الآن أنّ ولايته تنتهي في كانون الثّاني 2029. ما زال لديه بعض المتّسع من الوقت. لكن هل سيستمرّ في مساعيه السّلميّة، خاصّة بعد أن أصبح واضحا له مدى قدرة روسيّا على المناورة ؟

لا أتوقّع أيّ تراجع في الموقف الرّوسي. فقد حصل الرّئيس بوتين في هذا اللّقاء، على جرعة مقوّي كبيرة. دعوته، ومظاهر استقباله، أكبر صفعة يوجّهها لغريمه السّابق جو بايدن على أراضي بلاده. جاء بوفد، وفرض لقاء جماعيّا مع الرّئيس ترامب، يضمّ وزير خارجيّته المخضرم، سيرغي لافروف، ألذي كان يرتدي قميصا عليها إسم الإتّحاد السّوفياتي ، رسالة واضحة المعالم للولايات المتّحدة وللعالم. الرّئيس بوتين أتى إلى هذا اللّقاء كقائد روسي من عصر الحرب الباردة، يقارع نظيرا له في قيادة العالم.

لم يكن الرّئيس ترامب خاسرا في هذا اللّقاء. فمن جهة، عزّز صورته كرجل يعيد صورة أميركا العظمى، حيث أنّ اللّقاء تمّ في ألاسكا ألتي لها رمزيّة جيوسياسيّة كبيرة في العلاقات بين الولايات المتّحدة، والإتحاد الرّوسي. كما أنّه عزّز من جهة أخرى، صورته كرجل سلام، حتّى أنّ منافسته الدّيمقراطيّة السّابقة هيلاري كلينتون، دعت إلى منحه جائزة نوبل للسّلام. أسف الرّئيس ترامب كرجل سلام، لعدم نجاحه بتحقيق وقف إطلاق نار بين الجانبين الأوكراني والرّوسي. إشترط بوتين تنازلات إقليميّة لمصلحة بلاده، وكذلك تبديل زيلنسكي والإتيان برئيس لا يكون “نازيّا”. لا يٌتوقّع أنّ يفرض الرّئيس ترامب على الرّئيس الأوكراني زيلنسكي، تنازلات إقليميّة. لكن هل يكون انتخاب رئيس جديد لأوكرانيا، مدخلا لإعادة الجهود نحو تسوية ترضي روسيّا وعنفوان الرّئيس بوتين، ولا تقلق أوروبّا؟ لا أرى أيّ حلّ آخر على المدى القريب.

اخترنا لك