التنوير في سرداب السلاح : حكاية “السكي لح لح”

بقلم مكرم رباح

ألغى قرار الحكومة اللبنانية بنزع سلاح “حزب الله” أي وهم سياسي قد يكون جاثمًا عند أحدهم لجهة استمرار الدولة اللبنانية في تأمين الغطاء للمعادلة الذهبية المزعومة التي دمرت البلاد والعباد، وجعلت من لبنان لعنة ضربت أهله وجيرانه من العرب والعجم على حد سواء.

أتت ردود فعل “الحزب” وأنصاره، من الشيعة وغيرهم من “علمانيي المقاومة” أو محتسي الويسكي، عنيفةً نسبيًا، لكنها التزمت حدود الفظاظة السياسية والأخلاقية من استعمال العنف الجسدي حتى الآن. اكتفى هؤلاء بأساليبهم المعهودة التي اقتصرت على التحوير والتهويل والدعوة إلى الحرب الأهلية وتقسيم الجيش. لكن الأخطر والأخبث تجلى في الأصوات التي عَلَت مدافعة عن السلاح عبر السفسطة الفكرية المتلحّفة بعباءة اليسار. قد يتبلور الاعتراض على نزع السلاح في صيغة منمقة وفصيحة، أو من خلال فظاظة مطلقة كما في حال أحد المواطنين الذي انتشر فيديو له وهو يقلّد صوت إطلاق النار في الهواء ويردد عبارته الشهيرة: “سكي لح لح ما في”، في مشهد مضحك مبكٍ لرفضه، باسم شيعة لبنان، تسليم سلاح إيران إلى الدولة اللبنانية.

في هذا البلد العجيب، لا تحتاج أن تبحث كثيرًا عن المفارقات، يكفيك أن تصغي لخطاب من يسمّون أنفسهم “تنويريين” أو”يساريين تقدميين” لتكتشف أن التنوير عندنا ليس سوى مصباح زيتي صدئ يُستعمل لإضاءة سرداب مليء بالسلاح.

اليسار الحقيقي كان صوت العمال والفلاحين والمقهورين. أما “يسارنا” فصار صوت الـ Power Point والـ Zoom؛ يسار يعيش من ورشة تمويل إلى أخرى، يرفع شعار العدالة الاجتماعية في الصباح، وفي المساء يكتب مقالات تدافع عن “المقاومة” وكأنها آخر قلاع “البروليتاريا”. في الواقع، ما تبقى من هذه “البروليتاريا” أصبح يعمل في التهريب، أو يبحث عن طريقة لتزوير بياناته ليستحصل على فيزا أو إقامة في دولة غربية “قذرة”.

إنهم يتحدثون عن الحرية والمساواة وعن الدولة المدنية، لكن شرط ألا تقترب من “قُدسية” البندقية. عِلمانيتُهم تصلح فقط في مواجهة الكنيسة والمسجد، لكنها تتوقف عند أدراج الضاحية. هناك يتحول “المفكر التنويري” إلى داعية يسعى لإقناعك بأن السلاح “ضرورة وطنية” و”مقاومة شريفة”. وهل سمعتم بتنوير يبرر الوصاية؟ إنه اختراع لبناني حصري.

كم مرة سمعنا أن هذا السلاح حرر الأرض؟ لكننا على يقين بأنه لم يحرر شبرًا منذ سنوات، بل حَرّرَنا من الدولة، ومن الاقتصاد، ومن التعليم، ومن أي أمل بحياة كريمة. فأصبح اللبناني إما مهاجرًا، أو أسيرًا، أو ساخطًا بلا حول ولا قوة. والأضحوكة تكمن في أن “يسار التمويل” يُصفّق لهذا الخراب باسم السيادة والكرامة.

أجمل ما في هذا المشهد أن من يرفع راية الحرية يهاب الحرية نفسها: حرية أن تقول “لا” للسلاح، وحرية أن ترفض أن تكون رهينة مشروع إقليمي. هؤلاء يفضلون أن يتحدثوا عن “الجندر” “الكوتا النسائية”، بينما يغضون النظر عن قتل ناشط أو ضرب صحافي. الحرية عندهم تشبه مقهى بيروتي أنيق: تصلح للعرض لا للاستعمال.

يتزامن كلام المهرطقين أعلاه مع ذكرى انطلاق جبهة المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي سنة 1982. وللمفارقة، فإن قادة المقاومة ونواتها، وعددهم لا يتعدى أصابع اليد، قد تداووا من داء “السلاح من أجل السلاح”، وأعلنوا بكل شجاعة خضوعهم للديمقراطية والعمل السياسي البنّاء، وانتقلوا إلى إنشاء حركات سياسية سيادية حقيقية وهذا أمر اعتبره رفاقهم السابقون على سنة “جوزف ستالين” وصحبه عملًا خائنًا بامتياز؛ فتصدى الياس عطاالله، وسمير فرنجية، وسمير قصير، وزياد ماجد، وحكمت العيد، ونديم عبد الصمد ورفاقهم للاحتلال السوري ولسلاح “حزب الله”. بطبيعة الحال، خُوِنت هذه الزمرة من الشجعان من جماعة “السكي لح لح” على اختلاف انتماءاتهم، ليصل الأمر إلى حدّ الدفاع عن “حزب الله” الذي اغتال المقاومين العظماء وفي طليعتهم أبو أنيس جورج حاوي وسمير قصير.

ليس هناك يسار ولا يمين حين تُختطف الدولة. هناك فقط لبناني يريد أن يعيش. ومن يبرر السلاح تحت أي شعار، يساريًا كان أو يمينيًا، تنويريًا أو محافظًا، هو مجرد شريك في الجريمة. التنوير لا يعيش في كنف الميليشيات، بل في فضاء القانون والسيادة. وكل ما عدا ذلك ليس إلا كذبة مدفوعة الثمن. ومهما حاولتم أن تختبئوا وراء نظريات وأشجار فكرية، ستبقون من عشيرة “السكي لح لح” وإخوانها، من السعداء على طريق طهران – بيروت، أو ما تبقى منها.

اخترنا لك