بقلم السفير د. هشام حمدان
سارع رئيس الحكومة نوّاف سلام إلى التّعليق على مواقف إسرائيليّة أخيرة متّخذا صفة الدّفاع عن أمن “العرب والعروبة”. نحن نرفض أيضا تصريحات نتنياهو، لكنّنا كنّا نتمنّى من دولة القاضي الدّكتور سلام أن يعترض على أقوال نتنياهو بصفته رئيس حكومة لبنان لا ك”داع” سياسي، وكذلك باعتباره رجل قانون لا ك”رجل” سياسة. كنا نتمنّى أن يختصر رده على اعتبار تصريحات نتنياهو مخالفة لمبادئ القانون الدّولي، وميثاق الأمم المتّحدة، وقرارات الأمم المتّحدة، ولا تخدم السّلام الذي يسعى إليه العالم بقيادة أميركا، في هذه المنطقة.
نحن نعترض وبقوّة على هذا التّصريح. نقول للرّئيس سلام ومن يعنيه الأمر، لبنان لن يكون مجدّدا بوقا وساحة للعرب و”العروبة”، لا من أجل فلسطين، ولا من أجل غيرها. نريد أن نعود إلى سياسة الحياد الإيجابي التي جعلت وطننا ساحة الحوار الحضاري بين الشّرق والغرب وحمت وطننا طويلا من حروب المنطقة. نريد أن نعود إلى اتّفاق الهدنة مع إسرائيل لعام 1949. هذا هو فقط إطار علاقتنا معها، لا المفاهيم الإيديولوجية: ألقوميّة أو الدّينيّة.
يبدو أنّنا لم نتعلم كثيرا من دروس الشّعبويّة ولا من ذلّ فكرة الشعارات من أجل إحضار “الشّنط” من الخليج الغني. أغرقتنا تلك السياسات لأكثر من خمسين سنة، وما زالت، في بحر الدّماء، والخراب والانهيار الاقتصادي! ترى، عن أمن أي عرب وعروبة تتحدّثون يا دولة الرّئيس، ويا أصحاب شعارات العروبة الجوفاء؟
يا دولة الرّئيس، إذا كانت شنط المساعدات الخليجيّة تأتي من أجل هذه الشّعارات فبئسا بها. أنت تدرك جيّدا أن تلك المساعدات مرهونة بإرادة فاعل دولي لا فلسطيني، ولا إقليمي، ولا محلّيّ أيضا. لا يوجد عروبة، والعرب ليسوا واحدا، وأنت تدرك هذا الأمر، فلماذا هذا التّصريح الذي لا يؤذي إلا مصالح الوطن؟
قمت بعد عودتي إلى لبنان عام ٢٠١٦ إثر تقاعدي الطّوعي من وظيفتي كسفير بعد خلافي مع جبران باسيل، بتأسيس المركز اللّبناني لخدمة العلاقات العربيّة – الأميركيّة اللّاتينيّة، ساعيا وفقا للشّعار الذي كررناه طويلا كالببغاوات خلف جمال عبد النّاصر وكمال جنبلاط، إلى خدمة “العروبة والعرب”، ليس بالشّعارات، بل بالعمل الجدّي لتطوير العلاقات في كلّ المجالات بين العرب ودول أميركا اللّاتينيّة. كان من أهدافنا الإعداد لمؤتمرات دوليّة تجمع الخبراء العرب واللّاتينيّين لتعزيز روابطهم ومصالحهم المتبادلة. وقد قام المركز بنشاطات عديدة منذ ذلك الحين، والتقى العديد من الشّخصيات والسفراء. لم نتمكن من تحريك أيّة شخصيّة لبنانيّة أو عربيّة في لبنان تنادي بالعروبة كي تتبنّي توجهنا وتساهم في تحقيق مثل هذه الخطوة الحضاريّة المفيدة.
شاركنا عام ٢٠١٨، في مؤتمر نظّمته مؤسّسة سويسريّة في “الدّاخلة” في المغرب، بالتّعاون مع الحكومة المغربيّة. كان مؤتمرا جمع خبراء من مختلف أنحاء العالم، وحضره ما لا يقلّ عن ألف شخصيّة دوليّة من مختلف أنحاء العالم. شعرت في حينه بغصّة. كان من من الممكن أن نقيم مؤتمرا مماثلا لو كنّا نحظى بدعم دولة عربيّة كما حظي المركز السّويسري. وقد التقيت خلال الموتمر بشخصيّة سعوديّة رفيعة المقام ففاتحته بالجهود التي نبذلها وبمشاعري وسألته بعفويّة: ترى لو كنت سويسريّا هل كنت حصلت على المساعدة المرجوة؟ ردّ من دون تردّد: صحيح، صحيح.
عدت الى لبنان وقمت بزيارة إلى سفير دولة الإمارات العربيّة المتّحدة آنذاك لأشرح له الأمر. قاطعني السّفير فور أن تحدّثت عن فكرة مركز البحوث والدّراسات الذي أقمناه لهذا الهدف قائلا: أستقبل العشرات الذين يريدون فتح مراكز دراسات وبحوث. لا يهمنا هذا الأمر. كان كلامه يعني: لا نريد شراء مركز آخر للدّعاية لنا. قاطعت السّفير بدوري منبّها أنّه يتحادث مع زميل له وأبديت امتعاضي مشدّدا أنّي لا أزوره ل”أشحذ” منه بلّ لأنّني أريد خدمة العرب من خلال خبرتي العميقة والطّويلة . تراجع السفير واستمع لأفكاري. لكنّه ردّ بكل صراحة وثقة. “عن أيّة عرب تتحدث؟”
نعم، هو كان محقّا. عن أيّ عرب أتحدث؟ عن أيّة عروبة تتحدّث يا دولة الرّئيس؟ عن أيّ عرب تتحدث يا حامي سيادة لبنان؟ قررت حينها أن أقفل مركزي وأغادر. جئت إلى أميركا والتحقت أستاذا زائرا في جامعة تكساس في اوستن مهتمّا فقط بالعمل من إعادة بناء السّلام في لبنان. أما أنت فقد تركت أميركا ولاهاي وعدت إلى لبنان مهتمّا كما نرى، باستعادة لبنان ساحة ل”العروبة” الجوفاء.
عن أيّة عروبة تتحدّثون يا أصحاب شعار العروبة؟ لطالما كان لبنان ضحيّة ” العروبة”. وما يدفعه العرب من أموال هي حقّ طبيعي لشعبنا ووطننا بعد كلّ التّضحيات التي قدمناها. كنت أعتقد أنّ المشكلة ليست في المفهوم العروبي بلّ في سياسات الحكومات العربية. وعليه، طالبت بتحويل مفهوم العروبة من مفهوم قومي ثوري كما أطلقه عبد النّاصر الى مفهوم قومي علماني متصالح مع حقائق اليوم، يدفع نحو العمل المؤسّسي في إطار جامعة الدّول العربية بما يخدم المصالح المشتركة للدّول العربيّة وتبادل المنافع. غير أنّ ردّ السّفير الإماراتي صدمني. حتّى هذا النّموذج الجماعي العصري من التّعاون غير مرغوب. لكلّ بلد مصالحه الخاصّة، وأولويّاته، ونظرته للعلاقات مع الدّول الأخرى.
إذا عدنا لواقع اليوم في شرقنا العربي نرى أنّ البارز في ما يؤطّر مفهوم “العروبة” حاليّا حتّى فيما يتعلّق بفلسطين، هو العامل الدّيني فقط. ولذلك رأينا دخول دول إسلاميّة لها مصالحها في المنطقة على خطّ فلسطين، وخاصّة ايران وتركيّا. أعتقد يا دولة الرئيس أن عليك ان تكون صريحا مثل وليد جنبلاط فتدعونا للعودة إلى الإسلام. ربما علينا العمل لإقامة خلافة إسلاميّة جديدة لا عروبة، ولو تحت شعار معتدل. قد تدفع الأقلّيّات الثّمن كما يحصل في سوريّة، لكن ذلك الشّعار يبقى أكثر واقعيّة من شعار العروبة.