كفى تزويرًا باسم الشيعة

بقلم جاد الاخوي

لم يعد الصمت جائزًا أمام ما قاله المفتي الجعفري الممتاز الوارث لأبيه أحمد قبلان. الرجل يتصرّف وكأنه ناطق رسمي باسم الشيعة، فيما هو يكرّس خطابًا يسيء للطائفة أكثر مما يحميها.

في بيانه الأخير ضد البطريرك بشارة الراعي، أعاد إنتاج نغمة “المؤامرة” و”الحرمان الأبدي” و”سلاح الله”، متجاهلًا تاريخًا كاملًا من الحقائق بالأرقام والوقائع. الشيعة لم يدخلوا لبنان الكبير خاسرين، بل دخلوا كي يستعيدوا إنسانيتهم بعد قرون من الاضطهاد. من المماليك إلى العثمانيين، كانت المذابح بحقهم لا تُحصى. لكن عام 1920 فتح لبنان الكبير أمامهم أبواب التعليم والهجرة والبنية التحتية والعدالة الجزئية.

للمرة الأولى كان لهم محكمة جعفرية رسمية، وللمرة الأولى بدأت الأمية تنحسر في قرى الجنوب والبقاع. مشاريع القاسمية والزهراني والقرعون لم تكن خيالًا بل واقعاً، وكلها موّلتها دول، بينها الولايات المتحدة نفسها. أي جحود أكبر من أن يتنكر قبلان لهذا التاريخ ويصوّر الشيعة كأنهم لم يحصدوا من لبنان سوى الحرمان؟ ثم يأتي ليقول إن “سلاح حزب الله وأمل هو سلاح الله”.

أي إساءة أعظم لله ولدينه من أن يُختزل في ترسانة صواريخ؟ سلاح الله، كما علّمنا الأئمة، هو كلمة الحق والعدل ونصرة المظلوم. أما أن يصبح قهر اللبنانيين باسم “المقاومة” هو الدين، فهذا افتراء على العقيدة وتحقير للتشيع. المفكر كريم مروة كان محقًا حين قال: “المبالغة بموضوع الحرمان وكلام مسّاحي الأحذية هو جحود ونكران للجميل”.

فالشيعة في لبنان، بفضل هذا الكيان، صعدوا من تحت الصفر إلى أن أصبح بينهم أغنى المغتربين وأفضل المثقفين والفنانين والإعلاميين. الجامعة اللبنانية خرّجت أجيالًا منهم، وجريدة “الحياة” التي أسسها صحافي شيعي، كامل مروة، كانت الأوسع انتشارًا في البلد. أليس هذا تقدمًا؟ أليس هذا اندماجًا في الكيان بدل العزلة؟ إذن لماذا يستمر قبلان في التهويل؟ لأنه يعلم أن مشروع السلاح فقد مشروعيته.

يخافون من اليوم الذي سيحاسب فيه الشعب قياداته على حروب سوريا والعراق واليمن، وعلى الخراب الذي جرّوه إلى لبنان. لذلك يصرّون على زرع الرعب في قلوب الشيعة: “إما السلاح، أو يعودون ماسحي أحذية”. هذا ابتزاز رخيص لا يليق برجل دين. أما هجومه على البطريرك الراعي فمكشوف.

الراعي لم يتآمر على الشيعة، بل طالب بدولة تحمي الجميع. من يجرؤ أن يقول إن هذا مطلب صهيوني؟ من هو الخائن فعلًا: من يطلب سيادة الدولة، أم من يربط مصير الطائفة بمحور خارجي يقاتل على أكثر من جبهة ويترك لبنان معزولًا ومفلسًا؟ الحقيقة أن الشيعة هم أولى ضحايا خطاب قبلان.

شباب الجنوب والبقاع يهاجرون بالآلاف، القرى تنتظر حربًا كل بضع سنوات، الاقتصاد منهار، والهوية الشيعية تُختصر بسلاح يجرّ الويلات.

أهذه مقاومة؟ أم انتحار جماعي باسم المقاومة؟ لقد آن الأوان لنقولها بلا مواربة: أحمد قبلان يمثل خطًا سياسيًا يختبئ خلف العمامة ويبيع الطائفة لمحاور الخارج. الشيعة ليسوا “حزب الله”، وليسوا “أمل”، وليسوا “سلاح الله”. الشيعة لبنانيون أولًا، مواطنون يريدون دولة قوية لا مزرعة سلاح.

المفكر كريم مروة لخصها بدقة: ادعاء الحرمان اليوم ليس إلا ستارًا للتغطية على “الخوف من الثأر” بسبب جرائم هذا المحور في الداخل والخارج. وهذا هو جوهر الحقيقة.

أما البطريرك الراعي، فيكفيه أنه يرفع صوته حيث يصمت كثيرون، ويدافع عن لبنان الذي لولاه لما كان للشيعة هذا التقدم وهذه الفرص. فكفى تضليلًا باسمنا. من يريد إسرائيل فليرحل إليها كما قال قبلان، لكن من يريد لبنان فليؤمن بالدولة، وبشراكة حقيقية مع المسيحي والسني والدرزي. هذا هو خيار الشيعة الوطنيين، وكل ما عداه هو بيع للدين والوطن معًا.

اخترنا لك