بقلم نانسي اللقيس
لم يعد لبنان يعيش أزمة عابرة أو انقساماً سياسياً عادياً، بل يسير نحو انهيار في جوهر الدولة نفسها. فالمؤسسات التي وُجدت لتحمي المواطن وتضمن العدالة والأمن، وقعت في قبضة الولاءات الحزبية، وبات القرار الفعلي فيها مرتهناً لمحور واحد يفرض إيقاعه على ما تبقى من الجمهورية.
القضاء، الذي يُفترض أن يكون المرجع الأعلى للحق، سقط في لعبة التعيينات والمحاصصة، بحيث لم يعد القاضي يُقاس بكفاءته ونزاهته، بل بمقدار قربه من خريطة الولاء.
الملفات تُفتح أو تُقفل بتعليمات حزبية، والأحكام تُطبخ في الغرف السياسية لا في قاعات المحاكم، فتحوّل السلك القضائي من سلطة مستقلة إلى أداة بيد طرف واحد، ما أفقده هيبته وشرعيته وأطفأ آخر بارقة ثقة لدى الناس. وعلى الضفة الأخرى، لم يسلم الأمن من هذا الارتهان.
الأجهزة التي يُفترض أن تشكّل ملاذاً للمواطنين تحوّلت بدورها إلى ساحة نفوذ، يخضع ضباطها ومفاصلها لتوازنات مرسومة بما يتناسب مع سطوة السلاح. من يتعرّض لاعتداء لا يجد عدالة تحميه ولا أجهزة تحاسب المعتدي، لأن ميزان الولاء بات فوق ميزان الحق.
وهكذا انقلبت المعادلة من دولة تحمي مواطنيها إلى سلطة تساير نفوذاً حزبياً مسلحاً يفرض نفسه على الجميع.
ولم يعد شعار نزع السلاح وحده يعكس عمق الأزمة، لأن السلاح بات عرضاً لمرض أعمق هو اختراق الدولة من الداخل. التعيينات القضائية والأمنية والإدارية ثبّتت هذا الاختراق وأدخلته في نسيج المؤسسات، بحيث صار الولاء معياراً وحيداً للترقّي والقرار، فيما تراجعت الكفاءة والنزاهة إلى الهامش.
الأدهى أن العهد الجديد، الذي كان يُفترض أن يشكّل فرصة لإنقاذ ما تبقى، اختار المسايرة بدل المواجهة، وقدّم التنازلات تباعاً لضمان غطاء الثنائي. فبدل أن يعيد للدولة هيبتها، فتح الأبواب لتوسيع نفوذ الحزب وحلفائه، حتى صار العهد نفسه ملغوماً، يكرّس الانهيار بدل أن يوقفه.
بهذا المشهد، لا يبقى معنى لسيادة القانون ولا لوجود مؤسسات حيادية، لأن كل شيء يُدار من خارج الدولة وتحت سقف الولاء. والإنقاذ لا يمكن أن يبدأ من ترقيع اقتصادي أو تسوية سياسية، بل من تحرير القضاء والأمن والإدارة من هذه القبضة. من دون ذلك، لن يكون السؤال “كيف ننهض؟” بل “هل ما زال لدينا وطن نستطيع أن ننهض به؟”.