بقلم د. عبد العزيز طارقجي
منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وغزّة تعيش واحدةً من أكثر الحروب فتكًا بالمدنيين والبنى المدنية في التاريخ المعاصر.
ما بدأ كقصفٍ مكثّف تطوّر إلى انهيارٍ ممنهج لمنظومات الحياة: غذاءٌ وماءٌ ودواءٌ ومساكن ومدارس ومشافي، كلّها باتت أهدافًا متكررة أو محاصَرة بنتائج تُقاس اليوم بالمجاعة، وبتحوُّل الإغاثة نفسها إلى فعلٍ خطِر قد يكلّف طالبها حياته.
وفي 22 آب/أغسطس 2025، أكّد «تصنيف مراحل الأمن الغذائي المتكامل» وقوع مجاعةٍ مؤكَّدة في مدينة غزّة مع تحذيرٍ من تمدّدها جنوبًا ما لم يُفتح ممرٌ إنسانيّ آمن ومُستدام.
أولًا: الإطار القانوني الملزِم
– إسرائيل، بوصفها قوّةً قائمةً بالاحتلال في نظر الأمم المتحدة، مُلزمةٌ بضمان الغذاء والدواء للسكان بموجب اتفاقية جنيف الرابعة (المادة 55) وإتاحة مرور الإغاثة بلا عوائق عند عجزها (المادة 59). كما يحظر القانون العرفي واتفاقية جنيف تجويع المدنيين كسلاح حرب.
– يحظر البروتوكول الإضافي الأول (مادة 54) تجويع المدنيين ومهاجمة أو تعطيل «الأعيان التي لا غنى للبقاء عنها» كالأغذية والمياه والزراعة. حتى مع عدم انضمام بعض الأطراف، فقد بات الحظر قاعدةً عرفية ملزمة. ويصنّف نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية «استخدام التجويع كسلاح» جريمةَ حرب.
– تحمي قواعد القانون الدولي الإنساني الطواقمَ الطبية والمنشآت الصحية ووسائل نقل الجرحى؛ والهجمات عليها انتهاكات جسيمة. كما يحمي الصحفيين بوصفهم مدنيين.
– أدانت محكمة العدل الدولية خطر الإبادة وأمرت إسرائيل بإجراءاتٍ فورية لمنع الأعمال المحظورة وضمان دخول الإغاثة (26 كانون الثاني/يناير 2024) وبأن «توقف فورًا» عملياتها في رفح إن كانت تُعرّض المدنيين لمزيدٍ من الأذى (24 أيار/مايو 2024). كما طالب قرار مجلس الأمن 2728 بوقفٍ فوري لإطلاق النار وإطلاق جميع الرهائن.
– بالمقابل، يُحظِّر القانون أخذَ الرهائن والهجمات العشوائية أو المتعمدة على المدنيين – ما يلزم أيضًا الجماعات الفلسطينية، وقد تقدّم مدّعي المحكمة الجنائية الدولية بطلبات مذكرات توقيف لقادة من الطرفين على خلفية جرائم مزعومة تشمل أخذ الرهائن واستخدام التجويع كسلاح.
ثانيًا: الأرقام التي ترسمُ وجه الحرب “آخر التحديثات المتاحة”
– الضحايا المدنيون: حتى 20 آب/أغسطس 2025، سجّل مكتب «أوتشا» عن وزارة الصحة في غزّة 62,122 قتيلاً و156,758 جريحًا منذ بدء الحرب. كما قُتل 2,018 شخصًا وأُصيب أكثر من 14,947 أثناء محاولتهم الوصول إلى الغذاء منذ 27 أيار/مايو 2025.
– تفصيل الهوية العمرية/الجندرية للضحايا المعرَّفين: من أصل 60,199 حالة وفاة مُعرَّفة (حتى 31 تموز/يوليو 2025): 27,605 رجال، 9,735 نساء، 18,430 أطفال، 4,429 مسنّين.
– المجاعة وسوء التغذية: أكّدت الأمم المتحدة وقوع مجاعةٍ في مدينة غزّة. وثّقت «أوتشا» حتى 6 آب/أغسطس 193 وفاة مرتبطة بسوء التغذية (بينهم 96 طفلًا).
– السكن والبنية التحتية: 436,900 وحدةٍ سكنية (نحو 92% من إجمالي الوحدات) دُمّرت أو تضرّرت — منها 166,000 مهدَّمة بالكامل— بحسب تقييمات أممية حديثة.
– التعليم: 97% من مرافق التعليم أصابها ضرر و91% تحتاج إعادة تأهيل كبرى أو إعادة بناء لتعود وظيفية؛ وأكثر من 658 ألف طالب بلا وصولٍ لبيئات تعلّم.
– القطاع الصحي: عشرات المستشفيات خارج الخدمة أو بالكاد تعمل، وسُجّلت مئات الهجمات على الرعاية الصحية. قُتل أكثر من 1,500 من العاملين الصحيين.
– العاملون الإنسانيون: 2024 كان العامَ الأكثر دموية للعاملين الإنسانيين عالميًا (383 قتيلًا)، قُتل نحو نصفهم في الأراضي الفلسطينية؛ وارتفع العدد الإجمالي في غزّة إلى مئاتٍ إضافية خلال 2025، بينما تأكّد مقتل نحو 360 موظفًا من «الأونروا» منذ اندلاع الحرب.
وتشمل الحوادث البارزة قصفَ قافلة «وورلد سنترال كيتشن»
– الصحافة: تؤكّد «لجنة حماية الصحفيين» مقتل أكثر من 190 صحافيًا وعاملًا إعلاميًا في الحرب حتى آب/أغسطس 2025—وهو رقمٌ غير مسبوق عالميًا في صراعٍ واحد خلال عقود.
– النزوح الداخلي: ما يقرب من 86% من سكّان غزّة باتوا نازحين داخليًا.
ثالثًا: أنماط الانتهاكات المُبلَّغ عنها
1) التجويع والحصار والممرّات المعطّلة: الحظر الصارم، القيود على المعابر، وانعدام الأمن على خطوط التوزيع أدّت إلى مجاعةٍ مؤكَّدة في مدينة غزّة. هذا النمط يتعارض مع واجبات الدولة القائمة بالاحتلال (المادتان 55 و59) ومع الحظر العرفي لاستخدام التجويع كسلاح.
2) الهجمات على الرعاية الصحية والإغاثة: تواترُ استهداف مستشفيات وسيارات إسعاف وقوافل، بينها حادثة «WCK» وواقعاتٌ دامية ضد فرق «الهلال الأحمر» في ربيع 2025.
3) الضرر واسع النطاق بالبنى المدنية: نسب الدمار الهائلة في المساكن ومرافق التعليم والمياه والصرف الصحي تُشير إلى أنماط استخدام للقوة غير متناسبة أو دون احتياطات كافية.
4) استهداف الصحفيين: أعداد القتلى من الإعلاميين غير مسبوقة وتؤكّد هشاشة الحماية الفعلية رغم وضوح وضعهم كمدنيين.
5) الهجمات العشوائية وأخذ الرهائن: إطلاق الصواريخ عشوائيًا تجاه مناطق مدنية، وأخذ الرهائن، أعمال محظورة قانونًا وتُعدّ جرائم حرب.
رابعًا: المساءلة والإنفاذ
– القضاء الدولي: أوامر «العدل الدولية» تُنشئ التزاماتٍ فورية بحماية المدنيين وضمان الإغاثة؛ وأي تجاهلٍ منهجي لها قد يرقى إلى مسؤوليةٍ دولية.
– الاختصاص الجنائي الدولي: طلباتُ مكتب الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية لمذكرات توقيف بحق قيادات إسرائيلية وفلسطينية على السواء، على خلفية جرائمٍ مزعومة تشمل التجويع المتعمّد وأخذ الرهائن، تؤشّر إلى مسار محاسبةٍ قضائي متدرّج يجب دعمه بالأدلة وحماية الشهود.
خامسًا: ماذا يلزم الآن — توصيات عملية
1) وقفٌ لإطلاق النار وتنفيذٌ فوري لقرار مجلس الأمن 2728 مع إطلاق جميع الرهائن وإتاحة وصولٍ إنساني آمن ومُستدام.
2) فتحُ الممرّات ورفع القيود بما يضمن دخول الغذاء والماء والدواء والوقود بكمياتٍ كافية وتوزيعها بأمان.
3) حماية المنشآت المدنية والطبية والتعليمية ووسائل الإعلام والإغاثة، ووقفُ أيّ هجماتٍ أو إجراءات تُعرقل عملها.
4) تحقيقاتٌ مستقلة وشفافة في جميع الوقائع الكبرى (قوافل الإغاثة، ضربات المدارس والمشافي، قتل الصحفيين)، مع آلياتِ تعويضٍ فعّالة للضحايا.
5) خطة إعادة تعافٍ مبكر تُعطي الأولوية للمياه والصرف الصحي والصحة والتعليم والمأوى.
الحرب في غزّة لم تعد «نزاعًا مسلّحًا» بالمعنى التقليدي فحسب؛ إنّها اختبارٌ حادّ لقدرة القانون الدولي على حماية أبسط مقوّمات البقاء الإنساني.
الأرقام لا تقول «أضرارًا جانبية» بل سياسات وممارسات تُفضي إلى مجاعةٍ معلنة، وتحوِّل الإغاثة إلى مخاطرة قاتلة، وتُسقط صحفيين وأطباء ومعلمين ومدنيين بلا تمييز.
إنفاذ القواعد ليس رفاهيةً أخلاقية؛ هو شرطُ النجاة الأولى، وبداية طريقٍ نحو عدالةٍ تُعيد للإنسان حقّه في الحياة والكرامة— الآن، لا بعد حين.
* باحث في الانتهاكات الدولية لحقوق الإنسان وصحافي استقصائي
مصادر المعلومات والتوثيقات:
– تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) – تحديثات 2024-2025
– محكمة العدل الدولية – الأوامر المؤقتة في قضية الإبادة الجماعية (جنوب أفريقيا ضد إسرائيل) – يناير ومايو 2024
– قرارات مجلس الأمن – القرار 2728 (مارس 2024)
– اتفاقية جنيف الرابعة 1949 – المواد 55 و59
– البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف – المادة 54
– نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية – المادة 8
– تقارير لجنة حماية الصحفيين (CPJ) 2024-2025
– منظمة الصحة العالمية ووكالات الأمم المتحدة حول قطاع الصحة في غزة 2024-2025
– وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) – بيانات الخسائر البشرية
– تقارير برنامج الأغذية العالمي وتصنيف مراحل الأمن الغذائي المتكامل (IPC)
– تقييمات الأضرار الصادرة عن الأمم المتحدة (يونوسات)