بقلم عقل العويط
قالت له يعجبني أنّكَ لستَ منمَّطًا. أي أنّكَ خارج النمط. فالنمط هو الماركة المسجّلة. النموذج. القطيع. الجماعة. الجماهير. وأنتَ خارجٌ. وغريبٌ. ومختلفٌ. ولستُ أدري. صحيحٌ أنّكَ لستَ “بلاي بوي”، ولا على الطراز الذي “يشدّ” من أوّل نظرة، أو من ثانية، لكنّكَ غير شكل، ومن خارج القالب التكراريّ الذي ينتقيه صنّاع المحتوى، ويروّجون له، ويجعلونه نموذجًا. حضرتكَ “أنتي” ماركة مسجّلة. “أنتي” نموذج. وهذا كافٍ لكي أطلب منكَ أنْ تلاقيني إلى الجسر. نعم. الجسر. حيث الذهب، أي هناك، على شرفة نهر إرنو ، وتمامًا حيث وقف صاحبنا دانتي.
تقريبًا صُعِقتُ. وتقريبًا لم تتّسع لي الدنيا. وتقريبًا لم أصدّق أنّ الكلام موجَّهٌ إليَّ، أنا الغريب الذي خارج النمط، وليس له مكانٌ وموضعٌ في دنيا النمط والتكرار والنموذج. ثمّ قلتُ في ذات نفسي إنّ النساء فنونٌ، وللقاعدة استثناء، وإذا كان الطلب يشتدّ على النمط، على الواجهة التي تتطلّب مواصفاتٍ واستعراضًا وغبّ الطلب وتجاوبًا مع السائد وإلى آخره، فهذا لا يعني استحالة تطلّب اللّانمط.
صُعِقتُ، ولا أزال، وفي طريقي إلى موضع الذهب، إلى الجسر، إلى هناك، ولا بدّ أنْ ألتقي البروفسورة في الأنتروبولوجيا والعلوم الإنسانيّة، الغريبة التي صنّفتني غير شكل وغريبًا وخارج النمط.
وكانت هناك، وتنتظر، وعرفتْني من محتوايَ ومن اللّانمط. إنّما الغريبة آسرةٌ وساحرةٌ لكنّها غريبة. وأنا أيضًا غريٌب، وعابر سبيل، ولستُ آسرًا ولا ساحرًا، بل تقريبًا مأسورٌ، ومسحورٌ في الغالب. فما العمل؟ هل أقول لها كرجلٍ شرقيٍّ ساذج إنّي مأسورٌ ومسحور؟ أقول ماذا؟ ومتى؟ فلا أنا أعرف ماذا أفعل، ولا كيف أتصرّف لئلّا أقع في النمط فأبقى غريبًا وعابر سبيل، وبلا مخدّة.
أهلكتْني الغريبة عندما “وقعت” عينايَ فيها، فأسرتني، وسحرتني، وماذا وكيف ومتى وأين وماذا ولماذا، لكنّي عرفتُ أنّ محاضرتها الأخيرة في الجامعة كانت عن التنميط، فقلتُ لها بدون مقدّمات، وبعدما نظرتُ بعينيَّ “الواقعتين” في عينيها، قلتُ إنّي، كمرشدي ميلان كونديرا، أكره التنميط الذي آلت إليه الحداثة، والإعلام الحديث، ومنتجو المحتوى على منصّات التواصل، وإنّ الحضارة السائدة غارقةٌ في التكرار حتّى أذنيها، وتتباهى به، وتنسرب فيه، وتنخرط في مرآته.
بدل أنْ تتركني أفصح، ولكي “تعلّم” عليَّ، ألقت بنبرتها الجامعيّة مقطعًا من كتاب “فنّ الرواية” لكونديرا. قالت: “تعمل وسائل الإعلام في خدمة توحيد تاريخ الكرة الأرضيّة، فهي تضخّم عمليّة التقليص وتوجّهها، إنّها توزّع في العالم كلّه التبسيطات نفسها، والصيغ الجاهزة التي يمكن أن تقبلها البشريّة جمعاء، ولا يهمّ أن تعلن مختلف المصالح السياسيّة ذاتها في مختلف وسائلها، فوراء هذا الاختلاف السطحيّ تسود روحٌ مشتركة. يكفي تصفّح الأسبوعيّات السياسيّة الأميركيّة والأوروبيّة، سواء أسبوعيّات اليسار أو أسبوعيّات اليمين، من “تايمز” إلى “شبيغل”: فهي تملك جميعها الرؤية عن الحياة ذاتها، وهي رؤية تنعكس من خلال السلّم الذي تنتظم المواد المنشورة فيها بموجبه، في الأبواب ذاتها، في الصيغ الصحافيّة عينها، المفردات نفسها، الأسلوب ذاته، الأذواق الفنيّة عينها، وجميعها في مراتبيّة ما تجده مهمًّا أو ما تجده عديم الأهميّة. هذه الروح المشتركة هي روح عصرنا”.
وسكتتْ، وسكتُّ، وأشحتُ، خافضًا الجناح، تاركًا للغربة، للجسر حيث وقف دانتي، لوقوع الشمس تحت الأفق، ثمّ لآخر الليل، أنْ تأخذنا ذات مرّة، هذه المرّة، خارج النمط، خارج التكرار، وفوق نهر إرنو.
حدث ذات مرّة.